أولا: الإمام الشاذلي والطريقة الشاذلية - حياته... رحلاته... ملامح شخصيته
أبو الحسن الشاذلي: (593-656هــــ) – (1197م-1258م)
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
هكذا أجمعت كتب الطبقات والسيرة على هذا النسب وعلى صحة نسبه إلى الإمام الحسن بن علي ت... وقد أجمعت جميع المصادر التي أرخت للشاذلي أن مولده كان سنة 593هــــ بقرية «غمارة» المغربية من مدينة سبتة. ولم يخالف هذا الإجماع غير السيد أبي الحسن القاوقجي في «البدر المنير»،
و «خلاصة الزهر» حيث قال: أن مولده كان سنة 571هــــ. ولم يذكر المصدر الذي استقى منه هذا الخبر، وليس لنا أن نخالف الإجماع لرأي فردي([1]).
ولقد عاش أبو الحسن الشاذلي سنوات عمره مثالا للشيخ العالم الصوفي الحق.
..يقول الشيخ مكين الدين الأسمر: «مكثت أربعين سنة يشكل علي في طريق القوم، فلا أجد من يتكلم عليه ويزيل إشكاله حتى ورد الشيخ أبو الحسن ت فأزال كل شيء أشكل علي([2])».
ومن مكاتبات تلميذه الكبير أبو العباس المرسي لبعض أصحابه بتونس يصف الشيخ أبو الحسن: «...وإني صحبت رأسا من رءوس الصديقين، وأخذت منه سرا، لا يكون إلا لواحد بعد واحد، والشرح يطول، وبه أفتخر، وإليه أنسب ت، وهو أبو الحسن الشاذلي([3])».
رحلاته:
في نفس القرية الصغيرة «غمارة» القربية من مدينة سبتة التي ولد فيها الشاذلي وبها نشأ ونما.. وبها أيضا تعلم القرآن والحديث على يد شيوخها. واشتاق الصبي وهو صغير إلى علوم القوم فاتجه إلى شيخ من شيوخ الصوفية الكبار، فرحل إلى مدينة «فاس» وكان ذلك الشيخ هو الصوفي الكبير عبد الله بن أبي الحسن بن حرازم([4]) ولبس منه خرقة التصوف وسلك الطريق على يديه. ومن المعروف أن الشيخ عبد الله بن حرازم كان من أكبر تلامذة سيدي أبي مدين التلمساني. وهنا نرى بصمات مدرسة أبي مدين ودورها الكبير في تأسيس الطرق الصوفية والعمل بوعي وتخطيط كاملين لإقامة هذه الطرق. فاختاروا تلاميذهم بذكاء وبعثوهم بعد أن زودوهم بتعاليمهم حتى أصبحوا فيما بعد شيوخ الطرق الصوفية وروادها.. فقد التقى أبو مدين هذا كما قلنا سابقا –بالجيلاني بمكة.. وأتم بإرشاده علومه الصوفية وتأثر بطريقته، ويلاحظ أن أم سيدي أحمد البدوي حفيدة لأبي مدين.. وأبو مدين هذا هو أستاذ ابن مشيش. وابن مشيش هو أستاذ أبي الحسن الشاذلي. وأبو الحسين الشاذلي تلميذ أبي الفتح الواسطي وأبو الفتح الواسطي تلميذ الرفاعي كما أن الواسطي جد سيدي إبراهيم الدسوقي.
ومن هنا أستطيع أن أكرر ما سبق تأكيده من أن أبا مدين وابن مشيش والواسطي هم الرواد الحقيقيون وهم الرجال الذين عملوا على نشر أفكارهم على أوسع نطاق بنظام دقيق للغاية في العالم الإسلامي وخصوصا في مصر التي كانت تعد في ذلك الوقت بمثابة مركز الخلافة.
وإذا أردنا تتبع رحلات الشيخ أبو الحسن الشاذلي وجدنا أنه بعد لبس خرقة
التصوف من أستاذه عبد الله بن حرازم تلميذ أبي مدين رحل إلى «زويلة» ثم إلى مدينة تونس وتلقى على علمائها علوم الشريعة وتفقه على مذهب مالك ودرس علوم الفقه والأدب.
ويقول المرحوم الدكتور جمال الشيال: «إنه يبدو أن الجو في تونس كان أصلح منه في المغرب الأقصى، وحرية الفكر والدراسة مكفولة هناك إلى حد ما وفيها آنذاك كان يقيم عدد كبير من أعلام المتصوفة من أمثال الشيخ أبي محمد المهدوي([5])، والشيخ أبي سعيد الباجي([6]).. وقد عاصر الشاذلي أثناء تلقيه العلم في تونس هؤلاء الأعلام، ولا شك أنه اتصل بهم وتتلمذ عليهم وأخذ عنهم([7])».
«وكان الجو في تونس كلها يضوع منه شذى تعاليم أبي مدين وروحانيته، والكل هناك من تلاميذه الذين يسلكون طريقته، وقد تأثر الشاذلي بهذا الجو تأثرا شديدا وعشق التصوف وحياة المتصوفة منذ ذلك الحين ومنذ تلقى الطريقة من قبل في مدينة فاس على يد أبي عبد الله بن حرازم([8])».
وقد تجول الشاذلي في معظم بلدان المغرب وسافر إلى العراق واجتمع هناك بالولي أبي الفتح الواسطي عام 618هــــ تلميذ الإمام الرفاعي الكبير الذي أرسل الواسطي للإسكندرية لينشر بها الطريقة الرفاعية.. وكان الشاذلي أكثر اتصاله بالعباد والمتصوفة، وكان أكثر تأثره في رحلته هذه بالشيخ أبي الفتح الواسطي وهو من أكبر تلاميذ سيدي أحمد الرفاعي وكانت له منزلة عظيمة عند الرفاعية
مما دعاهم إلى إرساله إلى مصر ليعمل على نشر طريقتهم فيها، ووصل أبي الفتح إلى الإسكندرية في سنة 630هــــ وأقام بها مدة يعظ الناس ويدعوهم إلى طريقته وكان يلقي دروسه في مسجد العطارين، وقد قامت بينه وبين علماء الإسكندرية وفقهائها مساجلات وخصومات علمية كثيرة وتوفي بالإسكندرية في سنة 632هــــ وما زال ضريحه موجودا بالقرب من ضريح أبي الدرداء([9])».
يقول الشاذلي: «دخلت العراق ولقيت جملة من المشايخ فلم أر أحسن من الشيخ أبي الفتح الواسطي([10])» ومن هنا نؤكد مرة أخرى أثر الواسطي الكبير في حركة الطرق الصوفية فهو التلميذ النجيب لشيخ الطريقة الرفاعية وهو كما ذكرنا أستاذ الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية الكبيرة، ثم هو جد الإمام إبراهيم الدسوقي شيخ الطريقة البرهامية..
ومن هذا كله نرى أن الواسطي لم يسهم في إرساء وتأسيس حركة الطرق الصوفية في مصر فقط بل كان وراء نجاحها الكبير في القرن السابع الهجري أيضا. ولعله في مقدورنا الآن أن ندلل على هذا بأن الطرق الصوفية في مصر معظمها إن لم يكن كلها ذو أصل مغربي أو عراقي وليس هناك تصوف محلي ذو قيمة تذكر حتى الدسوقي الذي ولد وعاش في مصر كان حفيدا لأبي الفتح الواسطي العراقي([11]).
وكان للقاء الواسطي بأبي الحسن الشاذلي أثر كبير في مجرى حياة الشيخ الشاذلي فحين ذهب للعراق واجتمع به عام 618هــــ أبلغه أنه جاء للعراق يطلب القطب فقال له أبو الفتح الواسطي: أتطلب القطب بالعراق والقطب ببلادك فرجع للمغرب
واجتمع بالقطب الجليل أستاذه الروحي الكبير أبي محمد عبد السلام بن مشيش. وكانت مقابلته الأولى لأستاذه ابن مشيش في رأس جبل حيث كان يرابط متعبدا زاهدا خاشعا.. قال الشاذلي: «لما قدمت عليه وهو ساكن برباطه برأس جبل اغتسلت وخرجت من علمي وطلعت إليه فقير وإذا به هابط علي، فلما رآني قال: مرحبا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار،.. وذكر نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا علي طلعت إلينا فقيرا من علمك؟ أخذت منا علمي الدنيا والآخرة، فأخذني الدهش، وأقمت عنده أياما إلى أن فتح الله على بصيرتي، ورأيت له خوارق عادات وكرامات([12])».
وبعد أن صحبه مدة قال ابن مشيش للشاذلي: «يا علي: ارتحل إلى أفريقيا وأسكن بها بلدا تسمى شاذلة فإن الله تعالى يسميك الشاذلي. وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد تونس، ويؤتى عليك من قبل السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق وترث فيها القطبانية قال: فقلت له يا سيدي أوصني فقال لي: الله الله والناس. تنزه لسانك عن ذكرهم وقلبك عن التماثيل من قبلهم وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض وقد تمت ولاية الله عليك ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك وقد تم ورعك([13])».
وصدع الشاذلي لأمر أستاذه وارتحل إلى «شاذلة» وهي قرية قريبة من تونس وهناك قابل الشيخ التقي الصالح سيدي أبو محمد عبد الله بن سلامة الحبيبي الذي كان يرتقب لقاء الشاذلي من مدة، ويقول الشيخ الحبيبي كنت أحضر مجلس سيدنا الشيخ العارف أبي حفص الجاسوس، فأخذت بيده يوما أطلب منه أن يقبلني تلميذا له وقلت له: يا سيدي إني اتخذتك شيخي، فقال لي: يا بني ارتقب أستاذك حتى يصل من المغرب وهو شريف حسني من كبار الأولياء، وهو أستاذك وإليه تنتسب،
فكنت أرتقب كل من يأتي من الفقراء المغاربة وأصحبه، إلى أن من الله علي بلقاء الشيخ أبي الحسن فاتخذته شيخي وصحبته([14]). وعلى نهج أستاذه ابن مشيش لجأ الشاذ لي إلى الجبل.
وفي غار بجبل «زغوان» المطل على شاذلة سكن أبو الحسن الجبل وصحبه في معظم الأوقات تلميذه الحبيبي.
وظل الشاذلي في مغارته متعبدا واصلا الليل بالنهار في عبادة ربه والتقرب إليه بالنوافل والصيام.
وطالت إقامة الشاذلي «بشاذلة» وعرف هناك وذاع صيته وبدأت نبوءة أستاذه ابن مشيش تتحقق. فعرف منذ ذلك الحين بالشاذلي. وبدأ الناس يقصدونه، ثم أنه خرج عن رباطه فاتخذ له دارا (بمسجد البلاد) بمدينة تونس وأصبح ينتقل بينها وبين زاوية بجبل زغوان.
وأصبحت دروس الشيخ الشاذلي ومواعظه وتعاليمه بالمسجد من الأمور التي يحرص على الذهاب إليها مئات المريدين.. فبدأت حلقة الشيخ تتسع يوما بعد يوم ويزداد صيته في طول البلاد وعرضها. فكان إذا جلس للدرس التف حوله الأتباع المتكاثرون وإذا سار مشى في ركبه عشرات وعشرات.
وهذا الإقبال المتزايد من أهل تونس حول الشيخ الشاذلي عرضه لأحقاد ودسائس قاضي الجماعة بمدينة تونس (أبو القاسم بن البراء) فبدأ يكيد للشاذلي لدى سلطان تونس (أبي زكريا الحفصي) واتهمه بأنه جاسوس فاطمي جاء يتآمر عليه فهو حسني علوي.
والحق أن أبا القاسم بن البراء قاضي الجماعة بتونس كان ذكيا في ادعائه.. فقد
كانت تونس قبل ذلك فاطمية، وابن البراء لا يرى خلافا في كلمة القطب إلا أنها ستار يخفي وراءه معنى الإمام الفاطمي أو المهدي. لكن ابن البراء لم يكن على حق. فالشاذلي كان يقدر ويحترم الخلفاء الراشدين الأربعة ويعتبر أنه لا فرق بين أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي. فقد كان الشاذلي يجيب من يسأله عن شيخه بقوله: أما فيما مضى فعبد السلام بن مشيش، وأما الآن فأنا استقي من عشرة أبحر: خمسة آدمية وخمسة سماوية، فالخمسة الآدمية: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والنبي ×.
ويحدثنا صاحب (درة الأسرار) وصاحب (المفاخر العالية([15])) عن حسد ابن البراء ومحاولاته الوقيعة بين الشاذلي وبين سلطان تونس فيقول: أن ابن البراء أبلغ السلطان أن ها هنا رجلا من أهل شاذلة سراق الحمير يدعي الشرف ويدعي أنه الفاطمي ويشوش عليك في بلادك، واتهمه بالزندقة.. فأمر السلطان بأن يعقد مجلس يحضره الشاذلي والعلماء والفقهاء ويناقشون أبا الحسن.. وعقد المجلس وسألوه عن نسبه مرارا والشيخ يجيبهم.. وتحدثوا معه في علوم الدين والفقه فوجدوه عالما فقيها أذهل الجميع بحسن إجاباته. فقال لهم السلطان: دعوه عنكم هذا رجل من أكابر الأولياء. فقال له ابن البراء: والله إن تركته ليدخلن عليك أهل تونس ويخرجنك من أظهرهم، فإنهم مجتمعون على بابك، ولكن السلطان الذي تأكد من علم وتقى الشيخ الشاذلي لم يهتم بقول قاضي الجماعة وأمر الفقراء أن ينصرفوا ولبث مع الشيخ وقتا طيبا إلى أن حضر أخو السلطان أبو عبد الله اللحياني وكان كثير الاعتقاد في الشيخ فخرج مع الشاذلي إلى داره وصحبه وأكرمه.
وأحس أبو الحسن الشاذلي بغيرة وحقد قاضي القضاة نحوه فعزم على أن يترك تونس فلما علم السلطان قال: أي شيء يسمع به عن إقليمنا؟ إنه أتاه ولي من أولياء الله فضاق عليه حتى خرج فارا بنفسه.. فقال الشيخ الشاذلي: ما خرجت إلا بنية
الحج، وإذا قضى الله حاجتي أعود إلى تونس إن شاء الله تعالى فسمح له السلطان بالخروج.
ولكن ابن البراء الذي لا يزال قلبه مملوءًا بالغيرة كاد للشاذلي مكيدة أخرى خارج تونس فأعد رسالة سريعة إلى سلطان مصر الملك الكامل محمد الأيوبي. ووصل رسول ابن البراء للملك قبل وصول الشاذلي لمصر في طريقه إلى الحج.. وفي هذه الرسالة يقول قاضي الجماعة بتونس: «أن هذا الواصل إليكم –يقصد الشاذلي- شوش علينا بلادنا وكذلك يفعل ببلادكم».
ولم يكد الشاذلي يصل الإسكندرية حتى قبض عليه، وأرسل في حراسة مشددة للقلعة. وهناك عقد له مجلس من القضاة والعلماء وفقهاء الدين. واكتشفوا علمه وورعه وصدق إيمانه.. وأحس السلطان بأنها مكيدة من ابن البراء فاعتذر للشاذلي وأكرم وفادته.. وذهب أبو الحسن لحج بيت الله تعالى الحرام ثم عاد إلى تونس وفاء لوعده لدى السلطان التونسي. وهناك في هذه المرة التقى بتلميذه الكبير (أبو العباس المرسي) ومكث هناك حوالي عامين عمل خلالهما على تصفية أموره بتونس وأعد رحليه إلى الشرق في سنة 642هـــ حيث سافر إلى الإسكندرية ليقيم بها. وصحب معه أخلص تلاميذه أبو العباس المرسي([16]) الذي تعرف عليه حوالي عام 640هــــ بتونس. وكذا صحب معه إلى الإسكندرية خادمه الأمين أبا العزايم ماضي بن سلطان، والحاج محمد القرطبي، وأبو عبد الله البجائي، وأبا الحسن البجائي، والحزاز، وعددًا كبيرًا من أتباعه الذين أخذوا في التزايد كلما مر بمدينة من المدن في طريقهم إلى الإسكندرية.. ولما وصل الشيخ وأتباعه الإسكندرية اتخذ له دارا بالقرب من (كوم الدكة) ببرج من أبراج السور حبسه السلطان عليه وعلى ذريته، في أسفله مرابط للبهائم، وفي الوسطى منه مساكن للفقراء وجامع كبير، وفي أعلاه مسكنه.
وبدأ الشاذلي يلقي دروسه ويدعو الناس إلى طريقته في مسجد العطارين كما
كان يعقد كل ليلة في داره مجلسا يأتي الناس إليه من البلد يسمعون كلامه.
ويقول أبو الحسن الشاذلي ت: إنه انتقل إلى الإسكندرية بناء على رؤيا رآها.. وفيها يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقل إلى الديار المصرية.
وهنا نجد تشابها واضحًا بين رؤيا الشاذلي وسيدي أحمد البدوي. ونلاحظ أن مشايخ الطرق الصوفية يقولون: إنهم لا يتحركون من مكان إلى مكان إلا بإلهام أو رؤيا تأمرهم بالرحيل إلى هذا المكان أو غيره من الأمكنة.
المهم.. أن الإمام الشاذلي انتقل للديار المصرية وأسس بها طريقته الكبيرة التي انتشرت بها انتشارا سريعا.
يقول الأستاذ السندوبي: وما مثل مجيء الشاذلي إلى الديار المصرية من المغرب إلا كمثل مجيء السيد جمال الدين الأفغاني لها من المشرق كلاهما أحيا نفوسا بمعارفه وبعث همما بمواقفه، وأنار عقولا وملأ صدورا، وحرك قلوبا، ذلك باللطائف العلية والمعارف اللدنية، وهذا بالشرائع القدسية والعلوم الكونية، وكلاهما ترك تلاميذا ومريدين حملوا لواءه، وأذاعوا فضله. وأعلنوا نداءه، وترسموا منهج إصلاحه، وساروا في ضوء مصباحه، وكلاهما تركزت معارفه في واحد من أصحابه بذ أقرانه، وفاق إخوانه، فكان أبو العباس المرسي للشاذلي كمحمد عبده للأفغاني، كما كان ابن عطاء الله السكندري([17]) في إذاعة فضلهما ومبادئهما (بالنسبة للمرسي والشاذلي) كالسيد رشيد رضا بالنسبة لمحمد عبده والأفغاني([18]).
وظل الشاذلي بمصر قرابة أربعة عشر عاما من عام 642هــــ إلى أن توفي سنة 656هــــ «بحميزا» في صعيد مصر في صحراء «عيذاب» وهو في طريقه إلى الحج.
وبهذا المكان «حميزا([19])» قبره.
وبموت الشاذلي خلفه في طريقته تلميذه الكبير وأقرب الناس إلى قلبه أبو العباس المرسي (616هــــ-685هــــ) تلميذه وصاحبه وزوج ابنة الشاذلي. وقد أوصى أبو الحسن أتباعه به قبل أن يموت.. فقال لهم: إذا أنا مت فعليكم بأبي العباس المرسي، فإنه الخليفة من بعدي.
هذا هو الشاذلي: رحلة في طريق الله من المغرب إلى العراق إلى تونس إلى مصر.
ونستطيع أن نلمح من خلال ما كتب عنه الخطوط العريضة لهذه الشخصية الكبيرة، التي كان لها تأثير واضح في حركة الطرق الصوفية في مصر. والتي لا تزال أثرها حتى الآن أوضح ما يكون في انضمام كثير من عامة الشعب وخاصته إلى هذه الطريقة الكبيرة من الطرق الصوفية.
ولعل أوضح ما في شخصية الشاذلي معرفتها الحقة بالله.
يقول الشاذلي في روعة وجلال: «اعرف الله وكن كيف شئت([20])».
ولهذا فقد رأينا أبا الحسن يختلف عن بعض أصحاب الطريق حيث كان يرتدي
أحسن الثياب وأجملها. (دخل عليه مرة فقير وعليه لباس من شعر فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ، وأمسك بملبسه وقال: يا سيدي، ما عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، فأمسك الشيخ ملبسه فوجده فيه خشونة فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير فاعطوني([21])).
ودخل أبو العباس المرسي يوما على الشاذلي، وفي نفسه أن يأكل الخشن، وأن يلبس الخشن، فقال له الشيخ: يا أبا العباس (اعرف الله وكن كيف شئت).
ويقول أبو الحسن: (يا بني: برد الماء، فإنك إذا شربت الماء الساخن فقلت: الحمد لله تقولها بكزازة. وإذا شربت الماء البارد، فقلت: الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله([22])). الحق أن مثل هذه الأمثلة تعكس مزاجين مختلفين في التصوف:
(أ) العزيمة والتضييق والتشدد.
(ب) السهولة والرخصة والانبساط.
من الفريق الأول: التستري والسري السقطي.
ومن الفريق الثاني: الجنيد والجيلي عبد القادر والشاذلي.
وقد وردت مثل هذه القصة مع خلاف في الحكم في الرسالة القشيرية واللمع.
ويقول فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود: (أن النظرية الشاذلية في الغنى والفقر تفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، وتعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط. أما الشكر فإنه فضيلة في الدنيا والآخرة([23])).
ويؤكد هذا المعنى أبو الحسن الشاذلي حين يقول: ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة. ولا بقبقة الصناعة وإنما هو بالصبر على الأوامر، واليقين في الهداية([24]).
ويقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [الأعراف:32].
وكان مما يميز شخصية الشاذلي أيضا سعيه للخير ولقضاء مصالح الناس. يقول ابن عطاء الله السكندري: «أخبرني بعض أصحابنا قال: استشفع طالب الشيخ أبا الحسن إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يزاد على مرتبه فذهب الشيخ إليه فأكبر القاضي تاج الدين مجيئه إليه وسأله فيم مجيئه، فقال الشيخ: من أجل فلان الطالب كي تزيده في مرتبه عشرة دراهم. فقال القاضي: يا سيدي هذا له في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الفلاني كذا وكذا.. فقال له الشيخ: يا تاج الدين: لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها، فإن الله تعالى لم يقنع المؤمن بالجنة جزاء حتى زاده النظر إلى وجهه الكريم([25]).
وكان ت لا يرد من يقصده بل يسعى لقضاء مصالحه، وإلى جانب هذا كله، فقد كان الشاذلي مكافحًا بمعنى الكلمة وبنضاله المجيد الذي يذكره له التاريخ هدم الشيخ فكرة عن الصوفية بأنهم سلبيون في الحياة، وأن تصوفهم ضعف فها هو أبو الحسن الشاذلي وهو في أخريات حياته يذهب بنفسه لميدان الوغى في معركة المنصورة يلهم جند الله ويبث فيهم من روحه وقلبه إيمانًا بالنصر.
..وكان الشيخ في أخريات حياته قد كف بصره ووهن عظمه، ولكن عزيمته لم تهن، فذهب إلى ميدان المعركة مع جند مصر في مواجهة جيوش الغرب الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا «ذهب هناك للمنصورة مع قافلة النور تضم رجالات من أعظم الرجال في العلم والدين: العز بن عبد السلام، مجد الدين القشيري، محيي الدين بن سراقة، ومجد الدين الأخميمي، والفقيه الكمال ابن القاضي صدر الدين، والفقيه عبد الحكيم بن أبي الحوافر.
وكان وجود هؤلاء العلماء الأجلاء في المنصورة من عوامل رفع الروح المعنوية للمقاتلين وتقوية إيمانهم وعزمهم.
وكما كان الشاذلي مكافحا وداعيا لنصرة الإسلام والمسلمين، فقد كان يدعو أتباعه إلى السعي للزرق وإلى العمل.
وكان يكره المريد المتعطل الذي يسأل الناس.. وكثيرًا ما حث أتباعه على العمل ويقول لهم: عليكم بالسبب.
يقول أبو العباس المرسي: «دخلت يوما على الشيخ أبي الحسن ت، فقال لي: إن أردت أن تكون من أصحابي، فلا تسأل أحدًا شيئا، وإن أتاك شيء من غير مسألة فلا تقبله. فقلت في نفسي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه». فقال الشيخ: إن كنت مقتديًا به في الأخذ، فكن مقتديا به كيف يأخذ. كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ شيئا إلا ليثيب من يعطيه ويعوضه عليه، فإن تطهرت نفسك وتقدمت هكذا فاقبل وإلا فلا([26])».
ثانيا: الشاذلي العالم
كان الشاذلي رحمه الله على قدر كبير من العلم والمعرفة وكان يحضر مجلسه بعض علماء ونجباء مصر مثل: «العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والحافظ المنذري، وابن الحاجب، وابن الصلاح، وابن عصفور([27])».
ومما يدلنا على علم الشاذلي آراؤه المختلفة في النفس والذات والصفات وإرشاداته القرآنية لبعض الآيات الحكيمة.
فمثلا يقول الشاذلي عن النفس: «مراكز النفس أربع: مركز للشهوة في المخالفات، ومركز للشهوة في الطاعات، ومركز في الميل إلى الراحات، ومركز في العجز عن أداء المفروضات لله، ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة:5] ([28])».
ويقول: «رأس النفس: إرادتها، ويداها وعلمها وعقلها، وجلاها: تدبيرها واختيارها، فإذا أردت جهاد النس فاحكم عليها بالعلم في كل حركة وأضربها بالخوف عن كل حظوظ، وأسجنها في قبضة الله فيما كنت، وأشك عجزك إلى الله كلما غفلت([29])».
وفي الذات والصفات يقول الشاذلي: أركز الأشياء في الصفات، ركزها قبل وجودها، ثم انظر هل للعين أين، أو ترى للكون كان، أو ترى للأمر شأن، وكذلك بعد وجودها([30]).
وقد كان الإمام الشاذلي بنفسه يختار الكتب التي يقرأها أو يدرسها ويشرحها لتلاميذه ومريديه.. ومن أهم هذه الكتب: إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، المواقف والمخاطبات للشيخ محمد بن عبد الجبار النفري، قوت القلوب لأبي طالب المكي، الرسالة القشيرية للإمام القشيري، والشفاء للقاضي عياض.
وداخل جدران مدرسة الشاذلي استطاع هذا الرجل أن يربي الرجال ويعلمهم منهجه وطريقته.. ولكنه لم يضع كتبا.. وعندما سئل لِمَ لَمْ تضع الكتب قال: كتبي أصحابي.
وللشاذلي إشارات لطيفة لبعض آي القرآن الكريم تعد بمثابة تفسير صوفي لهذه الآيات الشريفة.
وقبل أن نستعرض هذه الإشارات الصوفية يجدر بنا أن نشير إلى قضية تأويل القرآن لدى الصوفية.
يعتمد الصوفية في تأويلهم القرآن -أي في مذهبهم الصوفي في تفسير القرآن-
على حديث ذكر بروايات متعددة وبألفاظ مختلفة ينسب إلى رسول الله ×: «ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع».
يقول الدكتور كمال جعفر: «ونرى أن اللفظين: «ظاهر» و «باطن» قرآنيان ولا يمكننا أن نعترض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق والتاريخ، كما أن به ناحية أخرى ربما كانت أخفى وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص، وأن التعبيرات الحديثة، مثل قولنا قراءة «ما بين السطور» لشاهد على أن لكل نص ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى تعمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك([31])».
ثم يذكر الدكتور جعفر ما نصه: «ويرى بعض النقاد أنه بالنسبة للتفسير الصوفي للقرآن يجب التفريق بين نوعين هامين، هما: التفسير النظري الذي يتخذ أسسا فلسفية عمادًا له، والثاني ذلك التفسير الإشاري الذي لا يستند إلى نظريات أو مبادئ فلسفية. على أن بعض المتطرفين لا يقبلون أي تفسير صوفي للقرآن مهما دعا إلى سمو روحي أو أخلاقي. وفي ذلك ما لا يخفى من تضيق وتزمت لا مبرر له. والفريق الأول من النقاد يرون أن في القرآن ذاته ما يشهد لهذا اللون من التفسير الإشاري أو الفيض. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] ([32])».
والدكتور جعفر ممن يرون فائدة في هذا اللون من التفسير الإشاري أو فهم القرآن «على أن يراعى فيه اتفاقه مع الروح العامة للقرآن ومع الاستعمال اللغوي وما أثر من تعاليمه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن يكون لهذا الفهم دوره الفعال في التأثير والتنشيط الروحي الذي يبعث على تنمية المشاعر النبيلة وتحصيل مكارم الأخلاق وبعد فهو فهم يضيف ثروة لا يستهان بها إلى تراثنا الروحي الإسلامي([33])».
ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم بتفسير القرآن، ولم يصل شرحا له، وإنما نقل عنه كلمات وإشارات صغيرة لبعض آياته الكريمة.. وقد كان سلوكه وخلقه قرآنيا، ونستطيع أن نقول من ناحية أخرى أن أحاديث الرسول × تعد بمثابة ضوء وتفسير للقرآن إلى حد مناسب.
يقول سهل بن عبد الله ت عن فهم القرآن: «لو أعطي العبد كل حرف من القرآن ألف فهم لما بلغ نهاية ما جعل الله تعالى في آية من كتاب الله تعالى من الفهم، لأنه كلام الله تعالى، وكلامه صفته. وكما أنه ليس لله نهاية. فكذلك لا نهاية لفهم كلامه. وإنما يفهمون على مقدار ما يفتح الله تعالى على قلوب أوليائه من فهم كلامه، وكلام الله غير مخلوق فلا تبلغ إلى نهاية الفهم فيه فهوم الخلق، لأنها محدثة مخلوقة([34])».
وعن إشارات الصوفية يقول الدكتور عبد الحليم محمود: «وينبغي أن نلاحظ أمرين: الأول: أن هذه الإشارات لا تهدف في قليل ولا في كثير إلى أن تحل محل التفسير المألوف.
الثاني: أن هذه الإشارات لا تتعارض مع التفسير المألوف.. إنها إشارات وليست تفسيرا، ومن أجل ذلك فإنه لا تعارض بين الصوفية والمفسرين([35])».
والحق «أن أهم النقاط التي يصر عليها النقاد لقبول هذا الفهم ألا يدعي الصوفي أولوية هذا الفهم بالصدق مع استبعاد المعاني الأخرى، بل لابد من التسليم أولا بالتفسير الظاهري أو بالمعنى الحرفي، ولا ضير بعد ذلك أن نذكر معان أخرى تنكشف للنفس الصافية فإن هذا ثمرة الإيمان كما يقول سعد الدين التفتازاني([36]).
وإذا كان علماء الظاهر يختلفون في تفسيراتهم وفهمهم واجتهاداتهم، ويعد
اختلافهم رحمة، فإن اختلاف أهل الحقائق رحمة من الله أيضا لأن كل واحد يتكلم من حيث وقته، ويجيب من حيث حاله ويشير من حيث وجده، فتكون فيهم لكل واحد من أهل الطاعات، وأرباب القلوب والمريدين، والمتحققين فائدة من كلامهم([37])».
ورأينا أن هذه الإشارات الصوفية فيها إثراء روحي ولون من ألوان الكشف عن الإعجاز القرآني. طالما أن الصوفي يؤمن بالتفسير الظاهري للقرآن ولا يرى أن إشاراته تقوم مقام التفسير الظاهري لكتاب الله العزيز. وإننا نعتبر مثل هذه المحاولات الصوفية لتأويل القرآن الكريم مجرد إشارات لا أكثر ولا أقل وإن كان فيها إثراء روحي مشرق المضمون ونفحة إلهية جميلة.
ولقد قام الشاذلي ببعض هذه المحاولات، فمثلا فسر آية ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ [طه:17]. هكذا: «يقال للولي: وما تلك بيمينك أيها الولي؟ فيقول: هي دنياي أنفق منها على نفسي وأهلي وإخواني، فيقال له: ألقها، فيلقيها فيجدها حية تسعى في هلاك قابضها فيأخذ حذره منها، فإذا حذر منها يقال له: خذها ولا تخف فكما ألقاها أولا بإذن حال بدايته فكذلك أخذها بإذن حال نهايته([38])».
ويقول الإمام الشاذلي في تفسير آية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85] ([39]). ومن يظن أن هذا العلم. أعني علم الروح وغيره مما ذكر وما لم يذكر، لم يحط به الخاصة العليا أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظيمين: جهل أولياء الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك، وظن بربه أنه منعهم وكيف يجوز أن يظن على مخصوص؟ وسرى به للتكذيب إلى القدرة والشرع بقوله عن اليهود أو عن العرب كما تضمن الخلاف. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. فما الدليل
لك منهما على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العليا. والكشف عن هذا أن السؤال يقع بأربعة أحرف: هل، وكيف، ولم، ومن.
فهل يقع بها السؤال عن الشيء أموجود هو أو معدوم، وكيف يقع بها السؤال عن حال الشيء.. ولم يقع بها السؤال عن العلة.. وليس في الآية شيء من هذا.
فإنك إن قلت فيها معنى هل يقتضي: هل الروح موجود أو معدوم وقد عرفوا وجوده من قبل. ولولا ذلك لما قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء:85]. فثبت أنهم عرفوا وجوده فبطل هذا وليس فيها سؤال عن الحال كيف هو، ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا. ولو كان سؤالهم عن هذين لما قنعوا بقوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. ولشغبوا وتردوا إذ هذا شغلهم وعاداتهم وإرادتهم. فثبت أن السؤال إنما كان عن الشيء من أين هو، بدليل الجواب والبيان الشافي بقوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. إذ الرسول عالم بما سألوا عنه فأجاب عن الله بذلك. كما تقول آدم فسألك عنه، وفهم المسئول السؤال فقال: آدم من تراب، فإذا رضي الجواب قنع وليس يرجع العدو إلا لفهم عظيم من الحق العظيم الذي لا مرد له. فكيف يزعم الزاعم أنه لا يعرف ولا يجوز أن يعرف. فقد أوجب الله علينا معرفته ولا مثل له. ولو ضيعناها لكنا كفارا أو عصاة فكيف بموجود مخلوق أمثاله كثيرة. هذا عين الجهل أن يقال: لا يجوز أن يعرف من له المثل والنظير وهو الروح. ( ويوجب معرفة من لا شبيه له ولا نظير)، فنعوذ بالله من جهل الجاهلين وظلم الظالمين. والذي أقول به أن لله أسرارا لا يسع فيها الرسم. ولا يليق بها الكتم. أن ترسم في الدواوين لعمى البصائر وضعفاء النجائز. ولا يليق بها الكتم لوضوحها وشدة ظهورها.
فلا تعبأن بهم مع كثرة حجمهم وذل للحق، واخضع له فيما هم فيه. وأعرض عنهم فيما لا علم لهم به. وقد أمر الله تعالى نبينا محمدا × بالاقتداء بإبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام وهو الفاضل الذي لا يصل إليه أحد، ويقول قد شاركتهم في النبوة والرسالة والهداية والأمور الطارئة على النفوس والأبدان والقلوب والأرواح. وانتدبهم فيما فيه الشركة وما خصصنا به. ففينا كذلك أيضا من فهم هذا السر، وإن الله مع عامة المؤمنين ومع أوساطهم ومع الأهلين وفارقهم فيما هو خاص للمخصوصين.
فإن تكن منهم فازدد بعلمك وعملك فقرًا إلى الله وتواضعًا لعباده واعطف بالرحمة على عامة المؤمنين وإن كانوا ظالمين إلا حيث أمرك الله بالغلظة عليهم مع الدعاء الصالح والدفع عنهم.
والحق أنه هذه رؤيا جديدة للآية الشريفة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. «وهذه الآية الكريمة كانت مثار خلاف شديد بين المفسرين من مختلف النزعات. وذلك أن كثيرا من المفسرين رأوا: أن الآية إنما هي نهي عن البحث في الروح بمعنى النفس الإنسانية لأنها من أمر الله فالله سبحانه، وهي من أمره، هو وحده العالم بها. وعارض هؤلاء كثيرون يرون أن الروح في الآية الكريمة، إنما هو القرآن الكريم، بدليل سياق الآيات السابقة، واللاحقة، فإنها كلها في القرآن الكريم، والقرآن يسمى روحا كما أن جبريل عليه السلام يسمى روحا... ولم يأخذ أبو الحسن بهذا الرأي أو ذلك، وإنما أدلى برأي نشهد بأصالته وعمقه ودقته»([40]).
ومن أمثلة تفسيرات الشاذلي وإشاراته واستشهاده بالآيات القرآنية. قال الشاذلي: (إذا عرض لك عارض يصدك عن الله فاثبت. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45] ([41])).
وقال الشاذلي: (من الشهوة الخفية للولي إرادته النصرة على من ظلمه. قال الله تعالى للمعصوم الأكبر: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35]. أي فإن الله قد لا يشاء إهلاكهم([42])).
الشاذلي.. والحقيقة المحمدية([43]):
الشاذلي الذي رأيناه منذ قليل مفسرا لبعض آي القرآن بمنهجه الصوفي الإشاري
سنراه الآن مفكرا له رؤيا خاصة تجعله من المفكرين القائلين بالحقيقة المحمدية([44]).
والقطب ذو معنيين عند الصوفية: أحدهما -الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، يسري في الكون سريان الروح في الجسد، ويفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل.
وقد يسمى القطب غوثا لالتجاء الملهوف إليه، فالقطب هنا إنسان اختص بما لم يختص به غيره عن الكمال.
والمعنى الثاني: أن يكون القطب قطبا للأقطاب، سابقا في وجوده عليهم، وعلى كل ما في عالمي الغيب والشهادة.
يقول ابن الفارض في تائيته الكبرى بلسان القطب المعنوي الذي هو (الحقيقة المحمدية):
وإني وإن كنت ابن آدم سورة.. فلي فيه معنى شاهد بأبوتي ويقول إن جميع الأنبياء صدروا عن الحقيقة المحمدية.
وكلهم من سبق معناي دائر.. بدائرتي أو وارد من شريعتي.
أما ابن عربي فيقول ما ملخصه: (إن القطب هو الكون الجامع العالم الصغير حقيقة الله وصورته وروح العالم وعلته) فيتفق مع ابن الفارض في معنى (الحقيقة المحمدية) من هذه الناحية. ولكن ابن عربي يطلق على القطب كذلك اسم (الإنسان الكامل) ويجعله عاما في كل إنسان متحقق الكمال سواء كان من الأنبياء أو الأولياء السابقين لذات محمد صلى الله عليه وسلم واللاحقين بعده. فقطبيته هنا قطبية حسية أيضًا علاوة على كونها قطبية معنوية.
ويتفق الجيلي مع ابن عربي في معنى القطب لأن الجيلي خاصة أطلق لفظ القطب إطلاقا فجعله شاملا «للحقيقة المحمدية القديمة» ولكل إنسان كامل حادث([45]).
رأي المدرسة الشاذلية في القطب:
حينما نستعرض رأي المدرسة الشاذلية في القطب نجد القطب بمفهوميه الحسي والمعنوي.
فالشاذلي يعتبر نفسه قطب زمانه (سألت الله أن يكون القطب الغوث في بيتي إلى يوم القيامة فسمعت النداء يا علي قد استجبت لك([46])) ويقول: (أخذت ميراثي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكنت من خزائن الأسماء([47])).
ونجد القطب المعنوي أو (الحقيقة المحمدية) من خلال صلواته على رسول الله × حين يقول فيها: (اللهم صل على سيدنا محمد أشرف الموجودات والسر الساري في سائر الأسماء والصفات وعلى آله وصحبه وسلم).
والشاذلي (لا يطلق على القطب الإنسان الكامل ولا يجعله عاما في كل إنسان متحقق بالكمال بل يسمي ذلك الإنسان الكامل الولي الصديق الصفي([48])).
ولعل قائلا يقول أن الشاذلي أخذ هذا القول عن ابن عربي والجواب (أنه أخذ ذلك عن شيخه ابن مشيش فالقطبية عند ابن مشيش حقيقة كلية جامعة قديمة كما هي عند ابن الفارض ومن صيغة الصلوات المشيشية المسماة بالوظيفة يظهر الدليل وهو قول ابن مشيش: (اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانطلقت الأنوار
وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا وهو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك([49])).
ويقول الأستاذ الدكتور علي صافي: (والقطبانية عند الشاذلي وخلفائه في الطريق تنتقل بالوراثة من قطب إلى قطب غير مشروطة في الوارث أرومة خاصة ولا نسبًا معينا، وهي في حقيقتها وراثة لكل ما كان يتصف به النبي في حياته من علوم وأمور باطنية، أما أحوال الظاهر، وشئون الحياة الدنيوية وما يتعلق بها من أحكام الدين وظاهر الكتاب والسنة، فذلك أمر لا يرث القطب منه شيئا([50])).
وقد عثرت -كما عثر من قبلي الأستاذ علي سالم عمار- على هذه الفصلة في (العموم) و (الخصوص). وفيها بيان كامل لفكرة الحقيقة المحمدية والإنسان الكامل لدي الشاذلي.. ومع طول هذا النص فأنا أقدمه كدليل واف على أن الشاذلي من القائلين بالحقيقة المحمدية.
قال الشاذلي رحمه الله([51]): (اعلم أن العلوم التي وقع الثناء على أربابها وإن جلت فهي ظلمة في علوم ذوي التحقيق، وهم الذين غرقوا في تيار بحر الذات وغموض الصفات فكانوا هناك بلا هم، وهم الخاصة العليا، وهم الذين شاركوا الأنبياء والرسل في مراتبهم وإن جلت مراتب الأنبياء والرسل، فلهم منها نصيب، إذ ما من نبي ولا رسول إلا وله من هذه الأمة وارث، وكل وارث على قدر إرثه من مورثه،
قال النبي ×: «العلماء ورثة الأنبياء». ولا يكون وراث إلا وله نصيب معلوم من مورثه يقوم مقامه، على سبيل إرث العلم والحكمة لا على سبيل التحقيق بالمقام والحال، فإن مقامات الأنبياء قد جلت أن يلمح حقائقها غيرهم، وكل وارث في المنزلة بقدر مورثه، إذ يقول الله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء:55]. كذلك فضل بعض الأولياء على بعض، إذ الأنبياء بعين الحق، وكل عين مستمد منها على قدرها، وكل ولي له مادة مخصوصة، فانقسم الأولياء على قسمين: قسم منهم هم أبدال الأنبياء، وقسم منهم أبدال الرسل، فأبدال الأنبياء الصالحون، وأبدال الرسل الصديقون، فبين الصالحين والصديقين في التفضيل كما بين الأنبياء والمرسلين، فمنهم ومنهم، غير أن منهم طائفة انفردوا بالمادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدونها عين يقين، لكنهم قليلون، وهم في التحقيق كثيرون، وكل نبي وولي مادته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الأولياء من يشهد عينه، ومنهم من يخفى عليه عينه ومادته، فيغنى فيما يرد عليه، ولا يشتغل بطلب مادته، بل هو مستغرق بحاله لا يرى غير وقته، ومنهم الذين مدوا بالنور الإلهي فنظروا به حتى عرفوا أمرهم على التحقيق، وذلك هامة لهم لا ينكرها إلا من أنكر كرامات الأولياء، فنعوذ بالله من النكران بعد العرفان، وهم الذين أخذوا طريقا لم يأخذه غيرهم، إذ الطريق طريقان: طريق خاصة وطريق عامة، فأعني بالخاصة المحبوبين الذين هم أبدال الرسل، وأعني بالعامة المحبين الذين هم أبدال الأنبياء، فعلى جميعهم السلام.
فأما طريق الخاصة، فهو طريق علوي تضمحل العقول في أقل القليل من شرحها، ولكن عليك بمعرفة طريق العامة، وهي طريق الترقي من منزل إلى منزل إلى أن ينتهي إلى منزل، وهو﴿مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:55].
فأول طريق يطؤه المحب الترقي منه إلى العلا فهو النفس، فيشتغل بأسبابها ورياضتها إلى أن ينتهي إلى معرفتها، فإذا عرفها وتحقق بها فهناك تشرق عليه أنوار المنزل الثاني وهو القلب فيشتغل بسياسة معرفته، فإذا صح له ذلك، ولم يبق عليه منه شيء رقي إلى المنزل الثالث وهو الروح فيشتغل بسياسته ومعرفته، فإذا تمت له
المعرفة به هبت عليه أنوار اليقين شيئا فشيئا، حتى إذا آنست بصيرته بترادف الأنوار عليها برز اليقين عليه بروزا لا يعقل فيه شيئا بما تقدم له من أنوار المنازل الثلاثة، فهناك بهم ما شاء الله، ثم يمده الله بنور العقل الأصلي في أنوار اليقين، فيشهد موجودا لا حد له ولا غاية بالإضافة إلى هذا العبد، وتضمحل جميع الكائنات فيه فتارة يشهدها فيه كما يشهد الينابيب في الهواء بواسطة نور الشمس، فإذا انحرف نور الشمس من الكوة لا يشهد للينابيب أثرا، فالشمس التي يبصر بها هو العقل الضروري بعد المادة بنور اليقين، فإذا اضمحل هذا النور ذهبت الكائنات كلها وبقي الموجود، فتارة يبقى وتارة يفنى حتى إذا أريد به الكمال نودي فيه نداء خفيا لا صوت له فيمد بالفهم عنه، إلا أن الذي يشهده غير الله ليس من الله في شيء فهناك ينتبه من سكرته، فيقول أي رب أغثني أي رب أغثني، فإنني هالك فعلم يقينا أن هذا البحر لا ينجيه منه إلا الله، فحينئذ يقال له أن هذا الموجود هو العقل الذي قال فيه رسول الله ×: «أول ما خلق الله العقل». وفي خبر آخر: «قال له أقبل فأقبل». الحديث، فأعطى هذا العبد الذل وانقياد لنور هذا الموجود، إذ لا يقدر على حده وغايته، فعجز عن معرفته فقيل له هيهات لا تعرف بغيره، فأهداه الله جل وعلا بنور أسمائه فقطع ذلك كلمح البصر أو كما شاء الله نرفع درجات من نشاء. (فأمده الله بنور الروح الرباني فعرف به هذا الموجود فرقي إلى ميدان الروح الرباني.. فلما استنشق من مبادئ صفته كاد يقول هو الله، فلحقه العناية الأزلية فنادته: ألا إن هذا الموجود هو الذي لا يجوز لأحد أن يصفه ولا أن يعبر عنه بشيء من صفاته لغير أهله لكن ننور غيره يعرفه، فأمده الله بنور من الروح فإذا هو قاعد على باب ميدان السر، فرفع همته ليعرف هذا الموجود الذكا هو السر فعمي عن إدراكه فتلاشت جميع أوصافه كأنه ليس بشيء ثم أمده الله بنور ذاته ما حياه به حياة باقية لا غاية لها، فنظر جميع المعلومات بنور هذه الحياة، فصار أهل الموجودات نورا شائعا في كل شيء لا يشهده غيره فنودي من قريب: لا تغتر بالله، فإن المحبوب من حجب عن الله بالله إذ محال أن يحجبه غير فيحيا بحياة استودعها الله فيه فقال: أي رب بك منك إليك فأقل عثرتي فإني أعوذ بك منك حتى لا أرى غيرك، فهذا هو سبيل الترقي إلى حضرة العلي الأعلى وهو طريق المحبين أبدال الأنبياء، والذي يعطى أحدهم من بعد هذا لا يقدر أحد أن يصف منه ذرة، والحمد لله على نعمائه، والصلاة على محمد خاتم أنبيائه.
وأما الطريق المخصوص بالمحبوبين. فأول قدم لهم بلا قدم أن ألقى عليهم من نور ذاته. فغيبهم عن عباده وحبب إليهم الخلوات. وعظم عندهم رب الأرضين والسموات. فبينما هم كذلك إذ ألبسهم ثوب العلم فنظروا فإذا هم لا هم. ثم أردف عليهم ظلمة غيبتهم عن نظرهم بل صار عدما لا علة له فانطمست جميع العلل وزال كل حادث بلا حادث ولا موجود. بل ليس إلا العدم المحض الذي لا علة له. وما لا علة له فلا معرفة تتعلق به. أضمحلت المعلومات وزالت المرسومات زوالا لا علة فيه. ويبقى من أشير إليه لا وصف له ولا صفة ولا ذات، فهناك طهر من لم يزل ظهورًا لا علة فيه. بل أظهر سره لذاته في ذاته ظهورًا لا أولية له. بل نظر من ذاته لذاته بذاته في ذاته. فحى هذا العبد بظهوره حياة لا علة فيها. فظهر بأوصاف جميلة كلها لا علة لها. فصار أولا في الظهور لا ظاهر مثله. فوجدت الأشياء بأوصافه. وظهرت بنوره في نوره. فأول ما ظهر سره فظهر به قلبه ثم ظهر أمره سره في سره وظهرت بأمره الذوات في نور القلم بنور القلم. ثم ظهر عقله بأمره في أمره وظهر به عرشه في نور لوحه بنور لوحه ثم ظهر روحه بعقله في عقله وظهر بروحه كرسيه في نور عرشه بنور عرشه. ثم ظهر قلبه بروحه في روحه فظهر بقلبه حجبه في نور كرسيه بنور كرسيه. ثم ظهرت نفسه بقلبه في قلبه وظهر بنفسه فلك الخير وللشر في نور حجبه بنور حجبه. ثم ظهر جسمه بنفسه في نفسه فظهر بجسمه أجسام العالم الكثيف من أرض وسماء. وعلى الجملة كل كثيف في نور الفلك بنور الفلك. فإذا أول قدم هذا المحبوب الفرد طرح النفس عدما فهو طرح لا علة فيه. فهو استقبال العدم بسقوط الأولية والأخرية والظاهرية والباطنية فيكون استقبال صفة معدومة لمعدوم.
ومعنى استقبال الصفة للمعدوم لمعدوم: أي لما انتهى العبد بدليل العلة وهو شهود الحق كلا شهادة متصلة غير منفصلة شهادة لا غفلة فيها قام عليه دليل لا علة فيه ولا له وهو شهود العدم المحض. ومعنى قيام الدليل الذي لا علة فيه ضرورة عدم المخلوقات المشهودات هو ذلك. فترادف عليه ذلك العدم المحض وهو سكرة النسيان الدائم أبدًا حتى الحياة التي قد أشير إليها فيما تقدم من الكلام على هذا المقام. فإذا طريق العهد طريق علوي أو ما طرح في بحر الذات. فانعدم فأحيا حياة طيبة
فنقل من غير تنقل إلى بحر الصفات ثم بحر الأمر الرباني. ثم بحر السر. ثم بحر القلم الأصلي. ثم بحر الروح. ثم بحر القلب. ثم بحر النفس. ثم بحر الحس. ثم لقيه بحر السر فطرحه في بحر القلمية. ثم بحر اللوحية. ثم بحر العرشية بحر الكرسي. ثم بحر الحجبية. ثم بحر الفلكية. فلقيه بحر السر المحيط فطرحه في بحر الملكية. ثم بحر الأبالسة. ثم بحر الجنسية. ثم بحر الأنسية. فلقى هناك بحر السر فطرحه في بحر الجنان. ثم بحر النيران. ثم طرحه في بحر الإحاطة وهو بحر السر. فغرق غرقا لا خروج له منه أبدًا إلا بإذن. فإن شاء بعثه عوضا عن الرسول يحيي به عباده. وإن شاء ستره. يفعل في ملكه ما يشاء.
وكل بحر من هذه الأبحر قد انطوت فيه أبحر شتى لو دخل الصالح الذي هو بدل الرسول في أقل بحر من هذه الأبحر لغرق فيه غرقا لا نجاة له منه. فهذه عبرة من بيان طريق الخصوص والعموم. والحمد لله وحده.
وهذا النص واضح وكلماته أنصع دليل على قول الشاذلي بالحقيقة المحمدية فهو مليء بالمواد والعناصر التي تؤكد ذلك. مثل قوله:
- كل ولي له مادة مخصوصة أي يستمد مادته ممن هو وارث.
- جميع الأولياء والأنبياء مادتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- استشهاد بالحديث الشريف: «العلماء ورثة الأنبياء».. ويقصد بالعلماء هنا الأولياء.. ومن هنا يقال أن فلانا الولي محمدي أو موسوي أو عيسوي.. ويتفاضل الأولياء في الدرجات كما يتفاضل الأنبياء ذلك أن علم الولي كما يرى الشاذلي إشراق من علم النبي والمرسل.
- وقوله: «الأنبياء أعين الحق»: أنهم منبع الحق. والحق هو الله تعالى. وهنا نلمس بذرًا لابن عربي الذي قال: النبي بوصفه إنسانا كاملا هو عين الحق على صورة الحق «خلق الله آدم على صورته». الحديث.
ويقول ابن عربي: «المخلوق عين الخالق. فالعبد حق، والرب حق، وإن كان
بالطبع الشاذلي لا يسير في نفس منحى ابن عربي الذي كان ثمرته وحدة الوجود، عند محيي الدين بن عربي.. ولعل الشاذلي قد تأثر بقول العزيز الحكيم في قرآنه المجيد حين خاطب رسوله ومصطفاه سيدنا محمد ×: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطُّور:48]. وحين خاطب موسى عليه السلام: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:39]. وحين خاطب نوحًـا عليه السلام: ﴿أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [المؤمنون:27].
- وقول الشاذلي: (وبين الصالحين والصديقين في التفضيل كما بين الأنبياء والمرسلين، غير أن منهم طائفة انفردوا بالمادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدونها عين يقين وهم قليلون، لكنهم في التحقيق كثيرون، وكل نبي وولي مادته من رسول الله صلى الله عليه وسلم «وهو الذي اعتبر نفسه كما ذكرنا من قبل قطب زمانه. وهو الذي قال من قبل: «لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة أو مقدار نفس ما عددت نفسي من المسلمين»).
الحق أن عناصر القول بالحقيقة المحمدية مليئة كما قلنا في نص الشاذلي مما يجعلنا نرى اعتبار الشاذلي أحد القائلين بالحقيقة المحمدية.
وقد يترتب على القول بالحقيقة المحمدية القول بوحدة الوجود. فابن عربي مثلا تدرج من القول بالحقيقة المحمدية إلى تأكيد مذهبه في وحدة الوجود.. لكن لا تجد فكرة وحدة الوجود في مذهب صاحب الطريقة الشاذلية. وها نحن نراه تيقول([52]): «وكان لي صاحب كثيرا ما يأتيني بالتوحيد، فقلت له: إن أردت التي لا لوم فيها فليكن الفرق على لسانك موجودا، والجمع في باطنك مشهودا. وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال، والظل لا وجود له باعتبار جميع مراتب الوجود، ولا معدوم باعتبار جميع مراتب العدم، وإذا أثبت ظيلة الآثار لم تتسلخ أحدية المؤثرة، إذ الشيء إنما يشفع بمثله ويضم إلى شكله كذلك أيضا من شاهد ظلية الآثار لم تعقه عن الله فإن ظلال
الأشجار في الأنهار لا يعوق السفن عن التسيار»([53]).
وإننا نلاحظ أن ابن تيمية نفسه حينما هاجم أصحاب وحدة الوجود استشهد في هجومه عليهم بقول تلميذ الشاذلي (سيدي أبي العباس المرسي) في أصحاب وحدة الوجود وهو: (هؤلاء كفار يعتقدون أن الصنعة هي الصانع([54])).
وهذا يعني أن ابن تيمية يرى أن المدرسة الشاذلية بريئة تماما من القول بوحدة الوجود.
ويقول الدكتور التفتازاني: كان تصوف الشاذلي والمرسي وابن عطاء الله، وهم أركان المدرسة الشاذلية، مبتعدا عن تيار مدرسة ابن عربي ومذهبها في وحدة الوجود فلم يكن واحدا منهم قائلا بهذا المذهب([55]).
وكذلك يقول الدكتور علي صافي: (.. فلست أجد في قول الشاذلي ومأثوراته جميعًا سواء منها الأذكار والأدعية أو الأحزاب عبارة ولا جملة تدل على أنه كان يذهب مذهب الحلوليين أو الاتحاديين أو القائلين بوحدة الوجود، اللهم إلا ما أخذه عليه ابن تيمية وذلك في قوله -أعني الشاذلي- اللهم أنقذني من أوحال التوحيد.. ([56]). ومع ذلك فإن الدكتور صافي يرد على مأخذ ابن تيمية فيقول: على أن مأخذ ابن تيمية هذا على الشاذلي في الإمكان رده، بأن يقال أن الشاذلي أراد النجاة من التوحيد المتسبب عن الأدلة العقلية والبراهين المنطقية لأنه في رأيه اعتقاد غير راسخ أو هو عرضة للتزعزع والارتياب، أما التوحيد الذي يصبو إليه أو يبتغيه ويسأل الله أن يبلغه إياه فهو تلك العقيدة الفطرية المستقرة في أعماق النفس التي لم تكن مسببة عن نظر واستدلال، وإنما هي وليدة الإحساس القلبي أو الفهم الوجداني الذي يعبر عنه لدى الصوفية بالإلهام([57]).
وأنا أقرر بعد معاشرتي الطويلة لفكر الشاذلي أنه ت لم يكن من أصحاب وحدة الوجود أو القائلين بهذا المذهب بل كان ت«لا يندفع في تيار الشطحيات العنيفة، ولا يغرم بالفلسفة العميقة، ويحرص على كل مظاهر الدين المثبت بسياج الشرع المكين، ولا يذهب للسكر الذي يذهب العقل»([58]).
ولعل ذلك ما دعا السيوطي لأن يقول: «ولو أن في طريق الشاذلية أدنى عوج لم يثن عليها ابن السبكي ولا ولده تقي الدين ولا أئمة عصره ومن قاربهم»([59]).
ثالثا: أصول الطريقة الشاذلية:
تشهد أقوال الإمام الشاذلي الكثيرة تأكيده المستمر على ضرورة الالتزام بمتابعة السنة فمن هذه الأقوال قول: «إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك أن لله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها في في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة. وأنهم أجمعوا على أنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة»([60]).
وتكشف أقواله عن شدة تمسكه بالسنة حين يقول: «ارجع عن منازعة ربك تكن موحدا واعمل بأركان الشرع تكن سنيا واجمع بينهما تكن محققا»([61]). وحين يقول: «إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس والجماعات فلا تعبأن به»([62]).
وأكثر من ذلك يقول الشاذلي: «إذا أردت أن يكون لك نصيب مما لأولياء
الله تعالى فعليك برفض الناس جملة واحدة إلا من يدلك على الله بإشارة صادقة وأعمال ثابتة لا ينقضها كتاب ولا سنة»([63]).
الحق أن الشاذلي كان عاملا بكتاب الله وسنة رسوله × ومن يتأمل أقواله وآراؤه يجده مثالا نادرًا للمتصوف العامل على ربط الشريعة بالحقيقة داعيًا أتباعه أنه لا حقيقة بلا شريعة وأن أساس الحقيقة الشريعة وأنه إذا عارض كشفك الشريعة فعليك بترك هذا الكشف الضال.
ولقد كان الدكتور صافي محقًا حين قال: «درست حياة الشاذلي والمرسي وغيرهما من المتصوفين المعتدلين كعبد الرازق بن حسام بن رزق الله وإبراهيم بن معضاد الجعبري فوجدت أنهم كانوا جميعًا على مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصول والفروع، ومن هنا كان تصوفهم العلمي والنظري قائمًا على أساس من ظاهر السنة والكتاب»([64]).
تدل أقوال الشاذلي وأفعاله: «أنه يعتنق في التوحيد مذهب الأشاعرة، فالله عنده واجب الوجود، ومتصف بالقدم والبقاء، أزلي أبدي سميع بصير متكلم عليم... أما أحزابه([65]) فهي صريحة في الإقرار لله بالوحدانية والقدرة المطلقة وأنه هو وحده المتصرف في كل شيء، فحزب البر، وحزب البحر وغيرهما من الأذكار ناطقة بذلك معربة عنه في وضوح وجلاء»([66]). وبالطبع أنه لا يتصور من صوفي حق غير ذلك، والحق أن ما توصل إليه الدكتور صافي هو ما توصلت إليه بعد ذلك من معايشتي للشاذلي وفكره، ونلاحظ أن تلاميذ الشاذلي أخذوا بالمبادئ المثلى للتصوف. «فهو لم يكن يفهم التصوف كما كان يفهمه بعض معاصريه وبعض المتدروشين حتى اليوم على أنه بطالة تامة بحجة الزهد والتفرغ للعبادة، بل كان يفهمه على أنه
صفاء تام في النفس وتقوى خالصة لله وحب لله تعالى وتعلق به، وارتفاع بالروح وبالعمل وبالقول عن الدنيا». «وكان الشاذلي يكره من المتصوفة التظاهر بالفقر فهو نوع من الادعاء، ولكي يضرب لأتباعه المثل والقدوة كان يحيا هو حياة نظيفة منعمة»([67]).
وقد مر بنا كيف كان يكره الإمام الشاذلي المريد المتعطل ويدعو أتباعه للعمل والبحث عن الرزق الحلال.. وذلك هو في رأينا التصوف العملي الخلقي الحق الذي يتقيد بالشريعة الغراء وأحكامها الرشيدة. يقول الشاذلي عن الصوفي الصحيح: «للصوفي أربع صفات، التخلق بأخلاق الله، وحسن المجاورة لأوامر الله، وترك الانتصار للنفس حياء من الله، وملازمة البساط بصدق الفناء مع الله»([68]).
الشاذلي .. والكرامات:
كان للإمام الشاذلي ت رأي في الكرامات يقول فيه: «ما ثم، كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السنة فمن أعطيها وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مغتر كذاب أو ذو خطأ في العلم بالصواب كمن أكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب.. كل كرامة لا يصحبها الرضا من الله وعن الله والمحبة لله ومن الله فصاحبها مستدرج مغرور أو ناقص هالك مبتور»([69]).
ويحدثنا الإمام الشاذلي عن فائدة الكرامة فيقول: «فائدة الكرامة تعريف اليقين من الله تعالى بالعلم والقدرة والإرادة والصفات الأزلية مجتمع لا يفترق وأمر لا ينعقد كأنها صفة واحدة قائمة بذات الواحد، لا يستوي من تعرف الله إليه بنوره، بمن تعرف إليه بعقله.
ثانيًا: ولأجل أنها تثبت لمن ظهر له، ربما وجدها أهل البدايات في بداياتهم،
ونقدها أهل النهايات في نهاياتهم. إذ ما عليه أهل النهايات من الرسوخ في اليقين والقوة والتمكين لا يحتاجون معه إلى تثبيت. وهكذا كان السلف ن لم يحوجهم الحق سبحانه وتعالى إلى ظهور الكرامات الحسية لما أعطاهم من المعارف الغيبية والعلوم الإشهادية.
ثالثا: لمعرفة تفضيل الله تعالى فيمن أظهرت عليه وشاهدة له بالاستقامة مع الله سبحانه وتعالى».
وقال الشاذلي أيضا: «الكرامة الحقيقية إنما هي حصول الاستقامة، والوصول إلى كمالها ومرجعها أمران: صحة الإيمان بالله عز وجل، واتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنا فالواجب على العبد ألا يحرص إلا عليهما، ولا تكون له همة إلا في الوصول إليهما، وأما الكرامة بمعنى خرق العادة فلا عبرة بها عند المحققين إذ قد يرزق بها من لم تكمل استقامته وقد يرزق بها المستدرجون»([70]).
ومن هذا كله نلاحظ أن الإمام الشاذلي نفسه يقدر الكرامة المعنوية ويعتبرها الكرامة الصادقة.
أما الكرامات الحسية والتي بالغ فيها أتباعه، وأضفوا عليها شيئا من القداسة كمعجزات الأنبياء رغم أن افتراءها واضح فقد قرر الشاذلي نفسه كما رأينا أن مثل هذه الأشياء لا عبرة بها عند المحققين إذ قد يرزق بها المستدرجون. ومع ذلك فقد ألفوا وافتروا كرامات للشاذلي ما أنزل الله بها من سلطان منها قولهم: «قال ت: «الشاذلي» ليلة أخذت ميراثي من رسول الله × مكنت من خزائن السماء فلو أن الجن والإنس يكتبون عني إلى يوم القيامة لكلوا وملوا»([71]).
وليس معنى ذلك أن كل الكرامات التي قيلت عن الشاذلي غير مقبولة فهناك كرامات مقبولة كثيرة منها على سبيل المثال قول ابن عطاء الله السكندري: «قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: كنت في بعض سياحاتي وقد أويت إلى مغارة بالقرب من مدينة المسلمين فمكثت فيها ثلاثة أيام. لم أذق طعاما. فبعد الثلاثة أيام دخل علي ناس من الروم كانت قد أرست سفينتهم هنالك. فلما رأوني قالوا: قسيس من المسلمين. فوضعوا عندي طعامًا وأداما كثيرًا فعجبت كيف رزقت على أيدي الروم ومنعت ذلك من المسلمين؟ وإذا قائل يقول لي: ليس الرجل من نصر بأحبابه، إنما الرجل من نصر بأعدائه»([72]).
وفي رحلته الأخيرة إلى الأراضي الحجازية التي توفي وهو في طريقه إليها، كان قد أوصى أصحابه أن يجهزوا معهم فأسا وحانوطا وبعض الأشياء التي يجهز بها الموتي. وكأن في ذلك كانت إشارة لقرب أجله.
لقد كان الشاذلي رحمه الله مباركا تقيًا فأكرمه الله بأعظم كرامة وهي هداية الناس لطريق الله والعمل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم.
أصول وتعاليم الطريقة الشاذلية:
تتمثل أصول الطريقة الشاذلية في تعاليم خمسة: «تقوى الله في السر والعلانية، واتباع السنة في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرضا عن الله في القليل والكثير، والرجوع إلى الله تعالى في السراء والضراء»([73]).
ونلاحظ أن هناك تشابها وصلات قوية بين الطريقة الشاذلية والطريقة القادرية،
فنجد أن أصول القادرية أيضًا خمس: «علو الهمة، وحفظة الحرمة، وحسن الخدمة، ونفوذ العزمة، وتعظيم النعمة»([74]).
وأصول سائر الطرق خمسة أيضا: «طلب العلم للقيام بالأمر، وصحبة المشايخ، والإخوان للتبصر، وترك الرخص والتأويلات للحفظ، وضبط الأوقات بالأوراد للحضور واتهام النفس في كل شيء للخروج عن الهوى والسلامة من الغلط»([75]).
ولقد أوضح الإمام الشاذلي أساس طريقته حين قال: «طريق القصد إلى الله: الذكر، وبساطه: العمل الصالح، وثمرته: النور، والتفكر، وبساطه: الصبر، وثمرته: العلم، والفقر، وبساطه: الشكر، وثمرته: المزيد منه، والحب، وبساطه: بغض الدنيا وأهلها، وثمرته: الوصول للمحبوب([76]).
ويقول الشاذلي: «خصلتان تسهلان الطريق إلى الله، المعرفة والحب»([77]).
والمعرفة لا تأتي إلا عن طريق العلم. أما الحب حقيقة فهو أساس الطريقة الشاذلية. يقول الإمام الشاذلي ت: «إننا ننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان فأغنانا عن الدليل والبرهان. فبالحب تهبط المعرفة في القلب بلا دليل ولا برهان، وإنا لا نرى أحدًا من الخلق، هل في الوجود سوى الملك الحق وإن كان ولابد فكالهباء في الهواء إذا تحققنا لم نجده شيئا»([78]).
ويقول الشيخ زروق عن الطريقة الشاذلية([79]): الطريقة الشاذلية مبنية على:
1- الذكر مع الافتكار.
2- واليقظة مع الاصطبار.
3- وترك التدبير والاختيار.
4- والجمع على الله مع عدم التفرقة([80]).
1- ذكر الشاذلية هو ذكر مع افتكار.. يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152] ويحدثنا الإمام الشاذلي عن الأذكار فيقول: «الأذكار أربعة: تذكره وهو الذي تطرد به الغفلة أو ما تخافه من الغفلة. وذكر تذكر به. أي خوف العذاب أو البعد، وحب النعيم أو القرب. وذكر يذكرك أن الحسنات من الله والسيئات من نفسك وإن كان الله هو الفاعل المختار، وذكر تذكر به ذلك: يقول الله فيه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152] فيذكر الله عبده به وليس للعبد فيه متعلق، وأن يجري لسانه وهو موضع الغناء بالذكر، والمذكور العلي الأعلى، فإذا دخلت فيه صار الذاكر مذكورا والمذكور ذاكرا»([81]).
ويقول الشاذلي: «هن ثلاث: فرغ لسانك للذكر، وقلبك للتفكر، وبدنك لمتابعة الأمر وأنت إذن من الصالحين»([82]).
2- واليقظة أو المراقبة «تسير مع الذكر جنبا إلى جنب، فيجب على الذاكر أن يكون مراقبًا ربه يقظا حذرًا مما يمر عليه من الخواطر والواقعات»([83]).
وتكون المراقبة التامة لهواجس النفس واليقظة لها بدوام بذكر لا إله إلا الله.
3- ومن أسس الطريقة الشاذلية ترك التدبير والاختيار. فأبو الحسن الشاذلي
هنا يدعو سالك طريقه -حتى يحصل على المحبة مع الله. أن يترك تدبيره إلى تدبير الله واختياره إلى اختياره سبحانه وتعالى فهو مدبر الأشياء وكل شيء بمشيئته تعالى. يقول الشاذلي: «المحبة مع الله برفض الشهوات والمشيئات. ولن يصل العبد إلى الله وقد بقي معه شهوة من شهواته أو مشيئة من مشيئاته»([84]).
وقال أيضا: «من انقطع عن تدبيره إلى تدبير الله ومن اختياره إلى اختيار الله وعن نظره إلى نظر الله، وعن مصالحه إلى علم الله بملازمة التسليم والرضا والتفويض والتوكل على الله فقد أتاه الله حسن الثواب([85])».
ويتابع الشاذلي آراءه في ذلك فيقول: «لا تختر من أمرك شيئا، واختر ألا تختار، وفر من المختار ومن فرارك ومن كل شيء إلى الله ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾[القصص:68]([86])».
وعن أسباب حجب الخلق عن الله تعالى يقول الشاذلي: «أكثر ما حجب الخلق عن الله شيئان: هم الرزق، وخوف الخلق، وهم الرزق أشد الحجابين.. وذلك لأن أكثر الناس يخلون من خوف الخلق. ولكنهم لا يخلو أحد منهم من هم الرزق إلا القليل، لا سيما وشاهد الفاقة قائم بوجود ذلك، فأنت مفتقر إلى ما يقيم بنيتك ويشد قوتك([87])».
وهنا يحسن بنا أن نتوقف قليلا ونتمهل في العرض فقد يفهم من هذا كله أن الشيخ الشاذلي من الآخذين بمذهب الجبر وأن في هذا القول بترك التدبير والاختيار لله وحده قول بالسلبية والتواكل.
إن الشاذلي يدعو إلى التوكل على الله -لا إلى التواكل والخمول. ولقد
ذكرنا من قبل كيف كان يكره المريد المتعطل الذي لا عمل له، بل أنه يعد واحدا من كبار الصوفية الداعين للأخذ بالأسباب.
يقول ابن عطاء الله السكندري تلميذ تلميذه الكبير أبي العباس المرسي: قال شيخي أبو العباس المرسي: «.. نحن إذا صحبنا تاجر ما نقول له اترك صنعتك وتعال، أو طالب علم ما نقول له اترك طلبك وتعال، ولكن نقر كل واحد فيما أقامه الله تعالى، وما قسمه له على أيدينا هو واصل إليه.
وقد صحب رسول الله × صحابة فما قال لتاجر: اترك تجارتك ولا لذي صنعة اترك صنعتك بل أقرهم على أسبابهم وأمرهم بتقوى الله فيها»([88]).
ويقول صاحب (المفاخر العلية): «والسادة الشاذلية ن أشد المشايخ حثًا على عمل الحرفة، حتى كان الشيخ أبو العباس المرسي يقول: عليكم بالسبب، وليجعل أحدكم مكوكه سبحته أو تحريك أصابعه في الخياطة سبحته أو الضفر»([89]).
ولقد تحدث عن التدبير ابن عطاء الله السكندري في كتابه (التنوير في إسقاط التدبير) بأسلوب رائع فقال: «واعلم أن التدبير أكثر جريانه على العباد المتوجهين إلى الله، وأهل السلوك من المريدين قبل الرسوخ في اليقين ووجود القوة والتمكين. وذلك لأن أهل الغفلة، قد أجابوا الشيطان في الكبائر والمخالفات واتباع الشهوات. وليس هو أكبر أسبابه فيهم، وإنما يدخل الشيطان على أهل الطاعات والمتوجهين لعجزه عن أن يدخل من غير ذلك عليهم فرب صاحب ورد عطله عن ورده، أو عن الحضور مع الله، ورب مريد استضعفه الشيطان وألقى إليه دسائس التدبير ليعكر عليه صفاء قلبه»([90]).
وبعد ذلك يلقي ابن عطاء الله السكندري الضوء على الأدلة التي تحمله على ترك التدبير والاختيار فيقول([91]):
واعلم أن الذي يحملك على ترك التدبير والاختيار أمور:
1- علمك بسابق تدبير الله فيك وذلك أن تعلم أن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك فكن له كما كنت.
2- أن تعلم أن التدبير منك لنفسك معناه حسن نظر الإنسان لنفسه.
3- أن القدر لا يجري حسب تدبير الإنسان لنفسه.
4- أن الله هو المتولي تدبير مملكته، وماذا يكون الإنسان في هذه المملكة فالاهتمام بالتدبير جهل بالله.
5- علمك أنك ملك لله، فليس لله معه تدبير ما هو لغيره، فما ليس لك في ملكه ليس لك تدبيره وإنك بايعت الله، فلا ينبغي لعبد بعد المبايعة تدبير
أو منازعة وإلا كان ذلك نقصا للمبايعة.
6- إنك في ضيافة الله؛ لأن الدنيا دار الله وأنت نازل فيها عليه، ومن حق الضيف ألا يعول هما مع رب المنزل.
7- النظر إلى قيومية الله في كل شيء، فهو قيوم الدنيا والآخرة، في الدنيا بالرزق والعطاء، وفي الآخرة بالأجر والجزاء، فإذا علم العبد قيومية ربه وقيامه عليه ألقى قياده إليه وانطرح بالاستسلام بين يديه.
8- اشتغال العبد بوظائف العبودية، فإذا توجهت همة العبد إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لنفسه.
9- إنك عبد مربوب وحق العبد ألا يعول هما مع سيده، فإن مقام العبودية الثقة بالله والاستسلام إليه.
10- عدم العلم بعواقب الأمور، فربما دبرت أمرا ظننت أنه لك فكان عليك.
من هذا كله فإن الإمام الشاذلي كما ذكرت سابقا ليس كأهل الجبر الذين يعتقدون أن الإنسان كالريشة المعلقة في مهب الرياح يحركها الله كيف يشاء. ذلك أن الإنسان في نظر هؤلاء الجبريين لا اختيار له ولا قدرة وأن الله قدر الأعمال أزلا وخلقها.
لم يقل الشاذلي بمثل هذا الرأي الجبري وإنما -على ما بينا- كان صاحب دعوة إلى التوكل على الله في كل الأعمال وتفويض الأمر إليه دون أن يدعو مريديه إلى التواكل وإنما يدعوهم للتكسب والعمل والسعي في الأرض والكفاح فيها، فالطريق الشاذلي طريق عمل ودعوة إلى الأخذ بالأسباب وليس طريق تواكل. وإنما طريق عمل بكتاب الله وسنة رسوله، فالطريقة الشاذلية كما يقول الدكتور علي صافي: «تقوم من الناحية السلوكية على العمل بالكتاب والسنة، أعني أن الشاذلي يلزم أصحابه وأتباعه ألا يقولون قولا يخالف في ظاهره ما تعارف عليه أهل السنة والجماعة من جهة ولا ما يأباه ظاهر الكتاب والسنة من جهة أخرى، ثم تلاوة الأحزاب، وعقد مجالس الذكر التي قد تنشد فيها الأشعار.. هذا من الناحية العملية.
أما من الناحية النظرية، فإن طريقة الشاذلي تقوم أولا على الاعتقاد بأن الموجود شيئان، خالق ومخلوق، أو رب ومربوب، أو عباد وإله معبود، وهو في إيمانه بالله وتصوره العلاقة بينه وبين الخلق متفق مع مذهب الأشاعرة وأهل السنة»([92]).
حقا لقد كان الشاذلي صوفيا متسننا عاملا بكتاب الله وسنة رسوله.
الشاذلي.. والسماع:
كان الإمام الشاذلي رحمه الله من القائلين بعدم إباحة السماع لأهل الطريق، ويقول في ذلك ابن عطاء الله: «قيل لسيدي أبي الحسن: لم يا سيدي لا تحب السماع؟ فقال: السماع من الخلق جفاء([93])».
وقال الشاذلي: «سألت أستاذي -يقصد ابن مشيش- رحمه الله عن السماع، فأجابني بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ =٦٩- فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ =٧٠-﴾ [الصَّفات: 69-70]».
وهناك نصوص كثيرة تؤكد أن الإمام الشاذلي من المنكرين للسماع مع أن بعض أتباعه الآن يستخدمون في احتفالاتهم وموالدهم الموسيقى والإنشاد.
وهأنذا أقدم نصا آخر يؤكد انفصال الخلف عن السلف باستعمالهم أدوات الموسيقى والغناء مع أن شيخهم الأكبر للطريقة الشاذلية لم يقل بهذا أبدا.
قال الشاذلي رحمه الله: «رأيت في النوم كأن بين يدي كتاب الفقيه ابن عبد السلام وأوراقًا فيها شعر من جزء، وإذا بأستاذي رحمه الله واقف، فتناول كتاب الفقيه بيمينه والأوراق بشماله، فقال لي كالمستهزئ: أتعدلون عن العلوم الذكية؟ وأشار بيده إلى كتاب الفقيه إلى أشعار ذوي الأهواء الردئية؟ وأشار بيده إلى أوراق الشعر، ثم رماه في الأرض وقال لي: من أكثر من هذا فهو عبد مرقوق لهواه، وأسير لشهوته ومناه، يسترقون بها القلوب بالغفلة والنسيان، ولا إرادة لهم في عمل الخير واكتساب العرفان، يتمايلون عند سماعها تمايل اليهود، ولم يحظ أحد منهم بما حظي أهل الشهود، لئن لم ينته الظالم ليقلبن الله أرضه سماء وسماءه أرضا»([94]).([95])
ويقول الحافظ جلال الدين السيوطي: «وكان الشيخ أبو الحسن ت ليس في طريقه السماع»([96]).
من هذا كله يتضح لنا بجلاء أن إمام الطريقة الشاذلية ورائدها لم يجز لأتباعه السماع ومع ذلك فقد خالفوا شيخهم العظيم.
وها نحن نراهم في مناسباتهم المختلفة يقبلون على السماع يستمعون
أو يسمعون وهذا على خلاف ما قال به الإمام الشاذلي.
كيفية الانتساب إلى الطريقة الشاذلية:
يرى الشيخ زروق أن الانتساب للطريقة الشاذلية يكون عن طريق أخذ العهد أي الأخذ والمصافحة ثم التلقي والمتابعة.
أما الشيخ إبراهيم المواهبي فيقول عن كيفية الانتساب للطريقة الشاذلية ما يلي: «اعلم أن الأخذ على أربعة أقسام:
أحدها: أخذ المصافحة، والتلقين للذكر، ولبس الخرقة، والعدية للتبرك
أو للنسبة فقط.
وثانيها: أخذ رواية، وهي قراءة كتبهم من غير حل لمعانيها، وهو قد يكون للتبرك أو للنسبة أيضا فقط.
وثالثها: أخذ دراية، وهو حل كتبهم لإدراك معانيها كذلك فقط من غير عمل بها.
ورابعها: أخذ تدريب وتهذيب وترق في الخدمة بالمجاهدة للمشاهدة»([97]).
ويقول صاحب (المفاخر العلية): «وينبغي لمن انتسب إلى ولي من أولياء الله أن يتشبه به في أصول طريقته. وفروعها المهمة ثم لا عليه من دقائقها، ويعلم أن هذا الولي باب من أبواب الله تعالى يقف به ليأتيه من ذلك الباب نفحة رحمة على حسب
مراده وقصده، وليكن قصده القرب لله تعالى دون ما سواه»([98]).
فروع الطريقة الشاذلية:
فروع الطريقة الشاذلية بمصر هي:
البكرية- السلامية- الخواطرية- القاوقجية- الوفائية- الحامدية- الجوهرية- العزمية- الفيضية- الهاشمية- السمانية- العفيفية- القاسمية- العروسية- الهندوشية.
أما فروع الطريقة الشاذلية بالمغرب العربي فهي:
الجزولية: وهي الشاذلية بعد أن تناولها المراكشيون بالإصلاح حوالي سنة 1465م.. أي حوالي النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي.
وللجازولية الشاذلية فروع بالمغرب العربي هي: الدرقاوة، والحمادشة، والعيسوية، والشرقاوة، والطيبية.
وهناك فروع أخرى للطريقة الشاذلية بالمغرب الغربي:
وهي العلوية: (فرع جزائري من الدرقاوة بمستغنام بني علوية) والطريقة الدغوغية والرباحية والقاسمية - والصداقية. وهي فروع للحمادسة الشاذلية في «مكناس» و «سلا». والطريقة الزروقية الشاذلية بمدينة فاس.
والطريقة السهيلية: (فرع جزائري للطريقة الشاذلية أنشئ في القرن التاسع عشر).
والطريقة الناصرية: فرع «مراكش» من الشاذلية في «تمكيرون» «أنشئ في القرن 17م».
والطريقة الشبية: (الفرع التونسي للناصرية الشاذلية).
والطريقة اليوسفية: (فرع من الشاذلية المغربية في «مليانة» أنشئ في القرن 16).
والطريقة المدنية: فرع «طرابلس» من الدرقاوة في «مصراطة».
والطريقة الكرازية: فرع من الشاذلية في مدينة «تافيلات» الجزائرية «أنشئ في القرن 19م».
والطريقة الحبيبية: فرع من الشاذلية في «تافيلات» «أنشئ سنة 1852م».
والطريقة السنوسية: أسسها سيدي محمد بن علي السنوسي الكبير بليبيا سنة 1250هــــ.
رابعا: ما أخذه ابن تيمية ومدرسته على الشاذلي
أخذ ابن تيمية على الإمام الشاذلي عدة نقاط هاجمه فيها وهي:
1- قول الشاذلي للمرسي: «إذا عرضت لك عند الله حاجة فاقسم عليه بي»([99]).
2- قوله في حزب البحر في توسلاته لله: «نسألك العصمة في الحركات والسكنات والكلمات والإرادات والخطرات من الشكوك والظنون والأوهام السائرة للقلوب عن مطالعة الغيوب»، فأنكرت مدرسة ابن تيمية عليه سؤال العصمة لأنه لا عصمة لغير الأنبياء.
3- قوله في حزب البر مخاطبا الحضرة الإلهية: «وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك، وأنت المفضال الغني، بل من الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك وأنت الرحيم العلي»، وقالوا: أن هذا يخالف قول العزيز الحكيم: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء:7].
1- النقطة الأولي([100]):
إنكار ابن تيمية على الإمام الشاذلي ت قوله: «إذا عرضت لك حاجة عند الله فاقسم عليه بي».
يقول الأستاذ عمار في كتابه عن الشاذلي: «وابن تيمية ومن تابعه لا يجيزون القسم على الله بالمخلوق وهم يضعون التوسل والاستشفاع بالمخلوق، فلا يجوز القسم عندهم بالمخلوق وإنما يكون بالله وأسمائه وصفاته أصلا كما لا يستفاد بالمخلوق، والتوسل والشفاعة لا تكون إلا بالعبادة والأعمال الصالحة.
وفسر المانعون معنى الوسيلة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ [المائدة:35] فقالوا: الوسيلة هي الأعمال الصالحة وليست شفاعة كما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء:57] والمانعون لا يفرقون في هذا بين الولي وبين النبي فلا يجوز التوسل بأحد كما أنهم يطلقون القول بذلك للناس جميعًا ولا فرق عندهم فيها بين العام والخاص بل ولا بين العالم والجاهل.
أما المجوزون: فجمهرة من أئمة علماء السلف يجيزون التوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالصالحين حال الحياة وبعد الموت منهم: على ما يقول صاحب
(جلاء العينين): ابن السبكي، والقسطلاني، وابن حجر، والسمهودي، وابن الجزري، وابن الحاج، وابن عرفة، وغيرهم([101]).
وهم يعتمدون في ذلك على بعض الأحاديث النبوية الشريفة مثل ما رواه الترمذي في جامعه، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجه في السنن، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في كتابي (الدعوات) و (دلائل النبوة)، والطبراني في معاجمه، وغيرهم عن عثمان بن حنيف: أنه كان قاعدا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ضرير يشكو ذهاب بصره ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله ليرد بصره عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو تصبر خير لك؟». فقال الضرير: ليس لي قائد وقد شق علي ذهاب بصري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي -وتذكر حاجتك- اللهم فشفعه في». قال عثمان: فلم يطل بنا الحديث حتى جاء الضرير وكأنه لم يكن به ضرر قط.
صحح هذا الحديث الترمذي، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، والذهبي، والمنذري، والعسقلاني، والسيوطي، وغيرهم من الحفاظ.
ومن أدلة المجوزين أيضًا الحديث المروي عن النبي × وهو: «إن من عباد الله تعالى من لو أقسم على الله لأبره».
رأي الشاذلي في الوسيلة والشفاعة:
للشيخ الشاذلي قولان: قول عام وقول خاص.
1- قول لعامة الناس الذين لم تنضج أفكارهم وأفهامهم في التوحيد، فهو يفتيهم بما يتفق ورأي المانعين حتى لا تتسرب الشبهة إليهم من أن للمخلوق فعلا، أو أن الشفاعة والوسيلة تصح دون العمل الصالح.
يقول ابن عباد: «قال رجل قد أحاط به الهم والغم حتى كان يمنعه عن الأكل والشرب والنوم: يا ابن فلان؟ اسكن لقضاء الله، وعلق قلبك بالله، ولا تيأس من روح الله. وانتظر الفرج من الله، وإياك والشرك بالله، والنفاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوء الظن بالله، فإنها موصلة لدوائر السوء من الله، موجهة لغضب الله ولعنته وإعداد ناره ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح:6]
قال: فرأيت أسيرًا مربوطًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ =٧٠- وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ =٧١-﴾[الأنفال: 70-71] فقلت: ما النفاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: التظاهر بالسنة والله يعلم منك غير ذلك. قلت: وما الشرك بالله؟ قال: اتخاذ الأولياء والشفعاء دون الله ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾ [السجدة:4] ﴿لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [الزُّمر:43] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا». قال: في حق بحق حيث أمرك الله ورسوله بحق، وقد بين لك حق البيان بقوله: «تؤجروا». اضمن شفع في المعصية وفي طلب الجاد والمنزلة أو في طلب الدنيا بالرغبة أو يؤجر بل يعذب ذلك. ﴿وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة:15] قلت: فما سوء الظن بالله؟ قال: من رجى غير الله، واستنصر بغير الله يئس من الله أن ينصره فقد ساء ظنه بالله. ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾[الحج:15].
هنا نجد الشاذلي مع هذه الفئة غير الناضجة والحائرة بين الشك واليقين يفتيهم
بالمنع؛ لأن الوسيلة هنا بالنسبة لهم نوع من الشرك نتيجة جهلهم، وهذا قوله بالنسبة للشفاعة لمثل هؤلاء العامة من الناس.
أما القول الخاص فهو لإفراد المحبين والذين لا سلطان على قلوبهم لغير محبوبهم ولا مشيئة لهم غير مشيئته، والذين أثبتوا لله ما هو حق له وأثبتوا لأنفسهم ما هو حق لها وهم مأخوذون بما هو حق لهم، باقون بما هو حق له، فإذا أقسموا مدللين على الله بفعل من أفعاله أو أثر من صفاته فإنما يشهدون في ذلك الفاعل المختار دون ذات الفعل أو الأثر.
يقول الشاذلي لأهل الخصوص: «الشفاعة هي انصباب النور على جوهر النبوة فينبسط إلى أهل الشفاعة من الأنبياء والأولياء وتندفع الأنوار بهم إلى الخلق»([102]).
فالأولياء شفعاء للمؤمنين فيما ليس يكفر ولا معصية كما يقول الشاذلي لذلك الرجل «في حق بحق» وشفاعة الكافر والعاصي هي التوبة والشفاعة للمؤمنين بالدعاء لهم والتوصل إلى الله أن يرفع درجاتهم بوصف أن الأولياء ورثة الأنبياء ينوبون عن صاحب الرسالة والشفاعة ويقومون مقامه متى لزم ذلك، وطلب منهم فاستجابوا للسائلين. وهي بذلك تكون شفاعة مأذونة.
ويرى الأستاذ عمار وهو شاذلي الطريقة أن معنى ذلك كله: «أن الشاذلي يعلم حقيقة الشفاعة تماما وهو ليس بالرجل الشعبي العادي الذي يجهل دقائق العلم وخطورة الموقف. وهو حينما قال للمرسي: «اقسم على الله بي» إنما قصد القسم بالمحبة القائمة بينهما في الله وبالله ولله. ولم يقصد القسم بذاته (أي شخص الشاذلي) ومن كالمرسي من عامة الأتباع وهو المستهلك في محبة الله ومن المدللين عليه».
ولابد أن أشير إلى أن معروفا الكرخي قالها قبل الشاذلي، فقد ذكر القشيري أن معروفًا الكرخي قال لتلميذه السري السقطي المتوفى 253هـــ: «إذا كانت
لك حاجة إلى الله فأقسم عليه بي([103])».
أما رأينا الذي نرتضيه فهو أنه من جهة القسم باسم ولي من أولياء الله تعالى أو غيره حيا أو ميتا فلا يجوز لحديث عمر وهو يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». (متفق عليه).
وفي رواية قال: قال رسول الله ×: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: لا تحلفوا بآبائكم». رواه مسلم وأحمد والنسائي.
يقول فضيلة الشيخ حسنين مخلوف: «والحلف بغير الله تعالى حرام كما جزم به ابن حزم، أو مكروه كما جزم به إمام الحرمين».
وللمالكية والحنابلة قولان، وجمهور الشافعية على أنه مكروه تنزيها. وقال بعض الفقهاء: إن اعتقد في المخلوقات به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرا. (ذكره الشوكاني).
ومن هذا يعلم أنه يحرم أو يكره الحلف بالنبي وبالولي وبالأب وغيرهم([104]).
من جهة قول الإمام الشاذلي لتلميذه أبو العباس المرسي: «إذا عرضت لك عند الله حاجة فأقسم عليه بي». (فالحق أننا نرى أنه قول نأخذه على الإمام الشاذلي ذلك أنه ليس في الإسلام وسائط بين العبد وربه تعالى. يقول رسول الله ×: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك».
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي: كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني
أهدكم، يا عبادي: كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي: كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم».
فالعبودية الخالصة لوجه الله تعالى تقتضي منا أن نتجرد عن الوسائط. يقول تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزُّمر:2] ذلك أنه وحده مالك كل شيء وهو وحده الذي ينفع ويضر وهو على كل شيء قدير.
أما النقطة الثانية التي أخذها ابن تيمية ومدرسته على الإمام الشاذلي وهو قوله في توسلاته لله: «نسألك العصمة في الحركات والسكنات والكلمات والإرادات والخطرات من الشكوك والظنون والأوهام السائرة للقلوب عن مطالعة الغيوب». فهنا أنكرت عليه مدرسة ابن تيمية سؤال العصمة لأنه لا عصمة لغير الأنبياء.
والحق أن الشاذلي لا يقصد بالعصمة حرفيتها وإنما بمعنى الوقاية والحفظ، وقد وردت كلمة «عصمة» بهذا المعنى في بعض من آيات الله المباركات.
﴿قَالَ لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ [هود:43] وقال تعالى أيضًا: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ [يونس:27] وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ [الأحزاب: 17] وقوله سبحانه: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:67].
لقد كان الشاذلي يريد من لفظة عصمة في هذا التوسل أن يحفظه ويقيه.
هذا ومن قبل الشاذلي بحوالي أربعة قرون قال إبراهيم بن أدهم (ت حوالي 161هـــ/ 178هــــ) في طوافه بمكة: «يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبدا»([105]).
أما النقطة الثالثة وهي قول الشاذلي في حزب البر أيضًا في تضرعه إلى الله: «وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك وأنت المفضال الغني، بل من
الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك وأنت الرحيم العلي. كيف وقد أمرتنا أن نحسن إلى من أساء إلينا فأنت أولى بذلك منا ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
فقد أخذت عليه مدرسة ابن تيمية توجيه مثل هذا الخطاب إلى الله بقوله أحسن إلى الله وأساء إلى الله، وفي القرآن الكريم: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء:7] و﴿اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ [آل عمران:97].
ويبدو لنا أن ابن تيمية كان محقا في مأخذه هذا على الشاذلي. فمن الصعب أن نخاطب الحضرة الإلهية بهذا الأسلوب.
وقد حاول الشاذلية من شراح حزب البر أن يدافعوا عن شيخهم في هذا فقال أحدهم([106]): (قوله: إلا لمن أحسن إليك) رأيت بخط سيدي عبد النور رحمه الله قوله: (إليك) «هذا وكذا على قوله أساء إليك بعدما صورته كذا، وذلك لأنه محل الإشكال، وتوهم المخالفة لقوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ [الإسراء:7] الآية، وكذا وجدت منسوبا لسيدي عبد الله بن عياد ما نصه: ينبغي أن يسقط إليك من قوله: «أحسن وأساء» لأنه لا يحسن أحد إلى الله ولا يسيء إليه. بدليل قوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء:7] غير أنه لا يقدر أحد أن يبدل لفظ الشيخ ت لأنه يرى بنور الولاية ما لا يراه غيره».
ثم يتابع الفاسي دفاعه فيقول: «وقد قال ت([107]) أيضا: كثيرًا وما رأيت في النسخ الصحيحة مكتوبًا على هذا الفصل: «من كان له مع الله بسط حال أو دلائل فليتم بهذه الكلمات ومن ليس له ذلك فليجاوزها إلى ما بعدها من قوله ﴿ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف:23]» ([108]).
//////
وقال البرزلي: (رأيت في بعض النسخ على هذا الموضع، وهي التي قد أخذناها عن شيخنا الحسن البطويني عن الشيخ أبي العزائم سيدي ماضي، عن الشيخ أبي الحسن ت: يسلم لهذا الشيخ في هذا الموضع ولا يقاس عليه) ([109]).
وبعد ذلك يقول: (رأيت المفضال الغني)، وإنَّما جاء الكلام كذلك على سبيل الفرض بالنظر لصورة الحال وما يقصده العبد من النصح لجناب الحق والوفاء لما يستطيعه ويقدر عليه في عزمه وتصميمه ووجود ضد ذلك منه، فقد جاء النظر بصورة الظاهر واعتباره في الشرع كقوله تعالى، إنَّما هو على سبيل المجاز؛ لتعذر الحقيقة في ذلك ويشهد لذلك الحديث الإلهي: «يا عبادي، إنَّكم لن تبلغوا ضري فتضروني». الحديث([110]).
ورأينا أنَّ هذا الدفاع عن الشاذلي نسي قوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ...﴾ {الإسراء:7}؛ ولهذا فقد جانب الشاذلي الحق حين خاطب الحضرة الإلهية بهذه الصورة: (أحسن إلى اللَّه، وأساء إلى اللَّه)، فلا شك عندنا أنَّ في هذا القول إساءة إلى الكريم الوهاب نأخذها على الإمام الشاذلي ت.
الشاذلي
إنتاجه .. وتراثه
من المعروف، أنَّ الإمام الشاذلي لم يترك كتبًا، ولمَّا سُئِل لِمَ لم تؤلف الكتب؟ قال: كتبي أصحابي.
والتراث الخالد الذي تركه معظم أصحاب الطرق الصوفية لتلاميذهم وأتباعهم تتمثل في أحزابهم وأورادهم ووصاياهم لهؤلاء الأصحاب والأتباع.
يقول الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود في مقدمته لكتاب شرح حزب البر للفاسي نقلًا عن صاحب المفاخر: (اعلم أنَّ أحزاب الشيخ ت جامعة بين إفادة العلم وآداب التوحيد وتعريف الطريقة وتلويح الحقيقة، وذكر جلال اللَّه تعالى وعظمته وكبريائه، وذكر حقارة النفس وخستها، والتنبيه على خدعها وغوايتها، والإشارة لوصف الدنيا والخلق، وطريق الفرار من ذلك ووجه حصوله، والتذكر بالذنوب ةالعيوب، والتنصل منها مع الدلالة على خاص التوحيد وخالصه، واتباع الشرع ومضليه، فهي تعليم في قالب التوجيه، وتوجيه في قالب التعليم).
حقيقة، إنَّ أحزاب الشاذلي تكشف عن طاقة روحانية هائلة، وقدرة خلاقة على التعبير عن الومضات الروحية والإشراقات والجوانب الانفعالية الإنسانية، وتكشف عن إبداع فني جميل، (ولا غرو فإنَّ التعبير الصوفي بجملته لا يخرج في الحقيقة وواقع الأمر عن طابع العمل الفني؛ إذ الأحوال الصوفية وما يعتري قلوب المتصوفين من تواجد وانجذاب أو ما يمثلونه في حياتهم أثناء اليقظة أو في المنام من مدركات وجدانية لا تختلف في شيء عن حقيقة الفن ومعناه؛ إذ هو -أعني
الفن- لم يخرج في كنهه وواقع وجوده وتحققه ككائن روحي عن كونه تعبيرًا صادقًا أو تصويرًا رائعًا لواقع الحياة على وجدان الفنان، والعمل الفني في ذاته ليس إلَّا فهم الفنان للكائنات والموجودات، لا بالعقل والفكر ولكن بالشعور والوجدان) ([111]).
وكنموذج من أحزاب الشاذلي سأقدم هذا النص الرائع: (وهو حزب البر)، وهو أجمل أحزاب الشاذلي ممَّا جعل المرحوم الدكتور زكي مبارك يقول عنه: (أنَّها خير ما أنتجت القرائح، ولا يغني ما فيها من قوة المعنى وطرافة الخيال... إنَّ فقرات الحزب تحتوي على دقائق الأسرار والإشارات التي لا يفهمها إلا كبار الحكماء) ([112]).
ولقد رتَّبه سيدي أبو العباس المرسي ت كورد بعد صلاة الصبح، كما رتب حزب البحر وردًا بعد صلاة العصر).
وأغلب هذا الحزب آيات من القرآن الكريم، وهذا تتويج وتجميل له، وفي الحديث الشريف: سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلالًا يقرأ من هاهنا ومن هنا، فسأله عن ذلك فقال: أخلط لاطيب بالطيب، فقال: «أحسنت». أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح.
وحزب البر حقيقة من أجمل الأحزاب ويتميز بكلماته المشرقة الفياضة([113])، وقد أضفت هذا الحزب إلى ملحق النصوص بالكتاب كنصٍّ لتراث من أجمل التراث الصوفي، الذي تركه سيدي الإمام الشاذلي لأصحابه وأتباعه.
المرجع : الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، أ/د عامر النجار ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، (ص 180-233) .
([4]) أحد شيوخ الأندلس والمغرب المعدودين. كان والده شيخا لأبي مدين ولبس منه خرقة التصوف. وكان لابن حرازم مقام كبير بالمغرب، توفي ودفن بالأهواز بضواحي فاس سنة 633هـــ.
([5]) هو أبو محمد بن أبي بكر المهدوي من شيوخ الصوفية الكبار ولقد أشار ابن عربي إلى علمه وفضله في غير موضع من كتابه الفتوحات المكية. تلقى طريق القوم عن أبي مدين. وتوفي المهدوي بتونس سنة 621هـــ. ولما علم أبو يوسف خليفة الموحدين بوفاته تأسف عليه.
([6]) هو خلف بن يحيى التميمي من أهل باجة بتونس اشتهر باسم أبي سعيد الباجي وهو من أشهر متصوفة عصره. سلك طريق القوم على يد أبي مدين. توفي سنة 628هـــ.
([11]) هذا لا يعني أنه كان للطرق الصوفية أهداف سياسية وراء التصوف والذي يمكننا قوله: هو أنه من الصحيح أن أصحاب الطرق علويون نسبا، لكن الحقيقة أن سلوك أصحاب الطرق الصوفية –كما وجدنا وكما سنرى- كان مثالا للتصوف الإسلامي العملي الخلقي بحيث يكون من الظلم أن نتجنى على هؤلاء القوم ونقول بلا رؤية موضوعية أن أصحاب الطريق لهم أهداف سياسية وراء دعوتهم.
([15]) كتاب «درة الأسرار» لابن الصباغ من ص10 إلى ص13 بتصرف يسير وكتاب «المفاخر العلية» ص210 بتصرف يسير.
([17]) ابن عطاء الله السكندري: هو تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الجراحي السكندري. ولد بالإسكندرية حوالي 658هــــ. وتوفي بالقاهرة في جمادى الآخرة سنة 709هــــ ودفن بالقرافة الصغرى، وقبره معروف بها حتى اليوم، وهو تلميذ أبو العباس المرسي والذي تولى رئاسة الطريقة الشاذلية بعد وفاة المرسي. وكان ابن عطاء الله السكندري عالما فقيها له مؤلفات كثيرة أهمها: «التنوير في إسقاط التدبير» ، و«الحكم العطائية» و«تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس» و«لطائف المنن» وهو أشهرها جميعا.
([19]) حميزا: من صحراء عيذاب.. وعيذاب بليدة صغيرة على شاطئ بحر جدة يعدي منها الركب المصري المتجه إلى الحجاز على طريق توحى في ليلة واحدة في أغلب الأوقات فيصل إلى جدة (الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك جــــ14 ص54). ملحوظة: بالطبع هذا أيام كان حجاج بيت الله يسافرون على الجمال.
([39]) كتاب أبو الحسن الشاذلي للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود ص57-59 نقلا عن لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري.
([43]) سبق لنا عرض نظرية الحقيقة المحمدية واعتمدنا في عرضها على نصوص للتستري حققها الدكتور كمال جعفر.
([44]) لعل أول من تكلم في القطب والقطبية ذو النون المصري ت 248هــــ. ومن أبرز القائلين بالقطب في القرن السابع الهجري ابن عربي وابن الفارض ثم بعد ذلك عبد الكريم الجيلي
(ت 1408م) صاحب كتاب «الإنسان الكامل» الذي نرى فيه تأثره بمذهب ابن عربي في الحقيقة المحمدية.
([45]) كتاب «أبو الحسن الشاذلي» لعلي سالم عمار جــــ1 ص196 وص197 نقلا عن كتاب ابن الفارض والحب الإلهي للدكتور مصطفى حلمي.
([51]) الفصلة موجودة في «المفاخر العلية» طبعة الحلبي ص130 إلى ص135. وقد وجدها الأستاذ عمار بـــ «درة الأسرار» الطبعة التونسية ص131 إلى 134، «المفاخر العلية» طبعة المكتبة العلامية ص91 إلى 94. اختلاف بعض الألفاظ في الطبعات المختلفة، وباختصار في كتاب «أبو العباس المرسي» للأستاذ حسن السندوبي ص37 ، 38.
([52]) لطائف المنن ص44 وكتاب «الشاذلي» للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود ص118 وكتاب الشاذلي للأستاذ علي سالم عمار ص237.
([57]) المرجع السابق ص70. هذا وسنقوم بعرض آراء ابن تيمية ونقده لأحزاب الشاذلي إن شاء الله في موضعها المناسب من هذا الرسالة.. ثم إن قول الشاذلي: «اللهم أنقذني من أوحال التوحيد» من الصلاة المأثورة لابن مشيش.
([80]) الجمع على الله: «معناه حضور القلب مع الله أو هو شهود الوجود الحق وشهود الأحدية فيه، وأما وجود العوالم والأكوان فوجود متوهم وذلك عدم التفرقة عن كتاب علي سالم عمار
(أبو الحسن الشاذلي جــــ2 ص43».
([100]) اعتمدنا في الرد على ابن تيمية في هذه النقطة على كتاب (جلاء العينين بمحاكمة الأحمدين) ص276 ،277، وص298 وكتاب (أبو الحسن الشاذلي) جـ2 للأستاذ علي سالم عمار من ص250 إلى 258 بتخليص وإيجاز، وكتاب المفاخر العلية لابن عياد ص127، 128.
([101]) نلاحظ أن الشفاعة موجودة أيضا في الفكر الشيعي: يقول الشيخ المفيد الشيعي: «إن الإمامية اتفقت على أن الرسول × يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأن أئمة آل محمد ×، يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين». (الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور الشيعي) ص399 نقلا عن أوائل المقالات للشيخ المفيد الشيعي ص47.