قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله احتجب عن أهل السماء كما احتجب عن أهل الأرض, واحتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار, وإنه ما حلّ في شيء, ولا غاب عن شيء, وإن الملأ الأعلى يطلبون الله كما تطلبونه أنتم»([1]).
قوله: «ما حل في شيء» لأن الحلول من خاصية الأعراض. قوله: «وما غاب عن شيء» إنما قال ذلك كيلا يشتبه على السامع, فيظن أنه إذا لم يكن حالا في الأجسام كان بعيدا عن عوالم الأجسام.
اعلم أن الحلول (باطل), لا يتصور أن يقال إن الدهر الرب, تعالى الله عن ذلك. وذلك لأن المفهوم من الحلول أمران:
(أحدهما): النسبة التي بين الجسم وبين المكان الذي يكون فيه, وذلك لا يتصور إلا بين جسمين, فالرب مبرأ عن معنى الجسمية, يستحيل في حقه مثل ذلك.
(الثاني): النسبة التي بين العرض والجوهر, فإن العرض قوامه بالجوهر, فقد يعبر عنه بأنه حال فيه, وذاك محال على كل ما قيامه بنفسه, فلا يتصور الحلول بين عبدين, فكيف يتصور بين العبد والرب تعالى؟
فإذا بطل الاتحاد والحلول, لأن المعقول من الحلول إحاطة المحل بالحال, كإحاطة الظرف بالمظروف, فبطل قول النصارى: إن اللاهوت حل في الناسوت, يعني بطل قولهم بحلول الله تعالى في جسد عيسى -عليه السلام-, إذ لو فرض حلول اللاهوت في هيكل المسيح لكان جسد المسيح أكبر مما حل فيه, فيكون الجسد البشري أكبر من الذات الإلهية, وإنه محال, تعالى الله عن ذلك.
[أما قول النبي تخلقوا بأخلاق الله]
(فصل) وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تخلقوا بأخلاق الله» معناه اتصفوا بالصفات المحمودة أو تنزهوا عن الصفات المذمومة, وليس معناه أن تأخذ من صفات القدم شيئًا.
مثال ذلك كمن يأخذ سراجا من سراج آخر, ويأخذ علما من علم آخر, لا يأخذ من عين سراجه وعين علمه, بل يحصل له من إشراق سراجه سراج آخر ومن إضافة علمه علم آخر, فإن صفات الله تعالى قديمة, لا تصير صفة لغيره لاستحالة كون القديم صفة لحادث, ولا يظن بالعقلاء المتميزين على أهل زمانهم بالعلم الراجح, والعمل الصالح, والمجاهدة وحفظ حدود الشرع, الغلط بالحلول والاتحاد, مع كون الله تعالى منعهم بالتوفيق والرعاية, كما غلط النصارى في ظنهم اتحاد اللاهوت بالناسوت في حق عيسى -عليه السلام-.
[فصل: وأما الخبر الإلهي كنت له]
أما الخبر الإلهي «كنت له سمعًا وبصرًا..» الحديث([2]) فليس في هذا الخبر أن العبد متحد بالله تعالى, وأن الله يتحد بالعبد, أو يحل فيه, بل معنى قوله: «كنت له سمعًا وبصرًا» كقوله: كنت له خالقا ورازقا, بي يتخلق وبي يرزق.
وهذا جواب كاف, ولكن حقيقة الأمر في ذلك أن المراد من قوله: "كنت له سمعا وبصرا" أي أتجلى له بصفة سمعي وبصري, فيتقوى بهذا التجلي سمعه الباطن وبصره الظاهر, فيسمع بهذا التجلي ما لم يكن يسمع من قبل, ويبصر ما لم يكن يبصر من قبل.
مثال ذلك رجل صحيح الحاسة في بيت مظلم, وفيه أشياء لا يراها, فلو أشعل مشعلة رأى بضيائها الأشياء الحاضرة ثمة. ولا شبهة أنه إنما يراها بضياء المشعلة, ولا شبهة أن ضياء المشعلة لم يتحد به, ولم يصر جزءا له, وإن كان إنما يرى ما رأى بها.
وإيضاح ذلك أن نور الحق سبحانه إذا تجلى على نور العبد استتر نور العبد في نور الحق تعالى, كما يستتر نور الكواكب عند طلوع الشمس, فيصير نور الحق غالبا, ونور العبد مغلوبا, فكان الحكم للغالب ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾[يوسف: من آية 21].
فحينئذ ما بقي للعبد تصرف بنفسه, وإنما تصرفه بربه تعالى, لأن الله تعالى يصرف عنه دواعي الباطل, ويزين له دواعي الحق, ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: من آية 7]. وذلك داعية الباطل.
فحينئذ يعصمه من ارتكاب المعاصي, ويحفظه من التقصيرات في الفرائض وحدود الشرع, وينكشف له جلية الحق, ويصير مستغرقا به, فإن هو نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله.
وإن نظر إلى توحيده فلا يرى غير الله وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه, فيكون كله مستغرقا به مشاهدة وهمة، وذلك ممن حصل له طهارة الظاهر والباطن, وتهذيب الأخلاق, وتذويب النفوس, فتبين بذلك أن الرب تعالى لا يتحد بالعبد, ولا يتحد العبد بالرب, فافهم, فإن الحلول والاتحاد بطلانهما في الإسلام أظهر من الشمس, لورود النصوص في القرآن برد ذلك قال الله تعالى: ﴿لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: من آية 17].
([1]) لا أعرفه بهذا اللفظ وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة بإسناد ضعيف من حديث أبي هريرة: «بين الله وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور». وفي أوسط معاجم الطبراني عن أنس عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «سألت جبريل هل رأيت ربك قال إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور لو رأيت أدناها لاحترقت» وفيه قائد الأعمش قال أبو داود: عنده أحاديث موضوعة، وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: يَهِم وفي مسند أبي يعلى من حديث سَهْل بن سَعْد: «دُونَ اللَّهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَاب من نُورٍ وَظُلْمَةٍ، فَمَا تَسْمَعُ نَفْسٌ شَيْئًا مِنْ حسن تِلْكَ الْحُجُبِ إِلا رَهَقَتْ نَفْسُهَا». وفيه موسى بن عبيدة لا يحتج به. ولمسلم من حديث أَبِي مُوسَى: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ». وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال يا محمد هل احتجب الله -عز وجل- عن خلقه بشيء غير السماوات والأرض؟ قال: «نعم بينه وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور وسبعون حجابا من نار، وسبعون حجابا من ظلمة، وسبعون حجابا من رفرف السندس». وذكر حديثا طويلاً وفي آخره «أن الملك الذي يلي الله جل ذكره إسرافيل ثم جبريل ثم ميكائيل ثم ملك الموت» وهو حديث موضوع، في سنده عبد المنعم بن إدريس كان يضع الحديث، وهو الذي وضع الحديث الطويل في وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي فيه أن عُكَاشَةَ قَام يطلبُ القصاص من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فعرض عليه أبو بكر وعلي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- أنفسهم فلم يرض بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بدلاً في القصاص... إلخ ما هو مشهور على ألسنة الناس متداول بينهم وكُلَّهُ كذب لا يحل سماعه ولا التقرير عليه.