نعلم أن قضاء الله نافذ لا يمنعه شيء، فكيف يمكن الجمع بين هذه الحقيقة والأحاديث التي تخبرنا بأن الدعاء يرد القضاء، وأن بر الوالدين وصلة الأرحام تزيد في الرزق والعمر؟
لاينبغي للمسلم توهم التعارض بين نصوص الشرع الشريف، فالدعاء عبادة لها أثرها العظيم، وقد أمرنا الله بها في كتابه العزيز في كثير من الآيات منها قوله تعالى: {أدعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}(1) ، والقضاء أحد أركان الإيمان، وأساس من اسس وصف الإنسان بالإسلام، وقد بينا ما يجب على المسلم اعتقاده في مسألة القضاء والقدر في إجابة السؤال السابق. وبرالوالدين، وصلة الأرحام من أكبر الطاعات وأعظمها بعد توحيد الله سبحانه وتعالي .
والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث ولم يدعه صلي الله عليه وسلم قط، فكم رفعت محنة بالدعاء، وكم من مصيبة أو كارثة كشفها الله بالدعاء، ومن ترك الدعاء فقد سد على نفسه أبوابا كثيرة من الخير. وقد قال الغزالي في هذا الشأن، فإن قلت: فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له ؟ فاعلم أن من القضاء ود البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهام، والماء سبب خروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى ألا يحمل السلاح.
وهذه الأحاديث التي توهم منها السائل التعارض بينها وبين العقيدة السليمة في القضاء والقدر، هي في حقيقتها منسجمة مع عقيدة القضاء والقدر، ويتضح ذلك من شرحها وتفسيرها للعلماء الذين قاموا على كتب السنة بالشرح والتوضيح، وسوف تجمل هذه الأحاديث بذكر حديثين يجمعان المعنى في هذا الشأن، ونورد شرحها نصا من كتب شروح السنة ليتضح الأمر.
الحديث الأول:
قال رسول الله ﷺ:(لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر)(2)
قال المباركفوري في شرحه لهذا الحديث ما نصه: «القَضَاءُ هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ، وَتَأْوِيل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه بِهِ وَيَتَوَفَّاهُ، فَإِذَا وُفِّقَ لِلدُّعَاءِ دفعه الله عنه، فتسميه قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوفى عنه، يُوضحة قوله صلي الله عليه وسلم في الرقى: (هُوَ مِن قدر الله). وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المَقْدُورَ كَائِنُ لخفائه عَلَى النَّاسِ وُجُودًا وَعَدَما، ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعونا رجع، فقال أبو عبيدة: أَنفِرُّ مِنَ الْفَضاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَال لو غيرك فلها يا أبا عبيدة نعم نفر من قضاء الله إلى قضاء الله. أو أراد برد القضاء -إن كان المراد حقيقتة تهوينه وتسير الأمر حتى كأنه لم ينزل، يُؤَيدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الترمذي من حديث ابن عمر: (إن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل) ... إلى أن قال:( وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر الإنسان ولا يَقصُرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ، وَصُورَتُهُ أَن يكتب في اللوح إن لم يحج فلان أو يغر فعمره أربعون سنة، وإن حج وَعَزَا فَعَمُرُهُ ستُونَ سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما قلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ وهو الستون، وذكر نحوه في معالم التنزيل، وقيل : معناه الله إذا بَر لَا يَضِيع عمره فكانة زاد. وقيل قدر أعمال البر سببا لِطُولِ الْعُمرِ، كَمَا قَدَّرَ الدعاء سببا لرد البلاء.
فَالدُّعَاءُ الْوَالِدَين وبقية الأرحام يريد في العمر، إما يمعنى آله يُبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره مِنَ الْعَمَلِ الكَثِيرِ، فَالزَّيَادَةُ مَجَازية في الآجال الزيادة الحقيقية، قال الطيبي : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا يمون سنة خمسمائة، استحال أن يَمُوتَ قَبْلَها أَوْ بَعْدَهَا، فَاسْتَحال أن تكون الآجال التي علَيْهَا عِلمُ الله تزيد أو تنقص، فتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره بمن وكل بقبض الأرواح وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ أَجَالٍ مَحْدُودَة)(3)
الحديث الثاني:
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (لا يَأْتِي ابن آدم النذر بِشَيْءٍ لمَ يَكُن قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِهِ الْقَدَرُ وقد قدرته له، أستخرج به من البخيل)(4) .
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث ما نصه: (قال البيضاوي: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة، فنهى عنها لأنه فعل البخلاء، إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه، والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا، فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه خيرا لم يقدر له، ولا يرد عنه شرا فهي عليه، لكن النظر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه.
قال ابن العربي فيه حجة على وجوب الوفاء بها التزمه النادرة لأن الحديث نص على ذلك بقوله يستخرج بها، فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه؛ إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج.
وفي الحديث الرد على القدرية كما تقدم تقريره في الباب المشار إليه، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أنس: (إن الصدقة تدفع ميتة السوء)، فظاهره يعارض قوله: «إن الندر لا يرد القدرة، ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال صلي الله عليه وسلم لمن سأله من الرقي: هل ترد من قدر الله شَيْئًا قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرٍالله ) أخرجه أبو داود والحاكم.
وقال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء، فإنه لا يُرَدُ الْقَدَرَ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْقَدَرِ أَيْضًا، وَمَعَ ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ عَاجِلَةٌ، وَيَظْهَرُ بِهِ التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع، وهذا بخلاف النذر فَإِنَّ فِيهِ الأخير العِبادة إلى حين الحصول، وترك العمل إلى حين الضرورة، والله أعلم(5).
مما سبق يتضح لنا كيفية الجمع بين هذه الأحاديث وبين عقيدة المسلم بالقضاء والقدر والتي لا ينبغي أن تتزعزع أبداء رزقنا الله وإياكم صدق الإيمان وحسن العمل، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأعراف آية: (55)
(2) أخرجه أحمد في مسنده : ج 5 ص ۲۷۷ رواه الترمذي في سننه : ج 4، ص 114، وابن ماجه في سننه ج۱ ص 35 وابن أبي شيبة في مصنفة ج6 ص ١٠٩ والطبراني في الكبير : ج 6 ص ٢٥١، والبزار في مسنده ج 6 ص 502
(3) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي المباركفوري ج 1 ص ۲۸۹.
(٤)أخرجه أحمد في مسنده : ج 2 ص 314، والبخاري في صحيحه ج 6 ص 2437
(5)فتح الباري، لابن حجر : ج11 ص577