هل النبي صلي الله عليه وسلم حي في قبره، وما مدى أثر تلك الحياة علينا في حياتنا الدنيا ؟
لابد من تحرير المصطلحات أولا في تلك القضية، فإن أكثر المشكلات تزول بمجرد تحرير المصطلحات، فإذا كان المقصود من حياة النبي صلي الله عليه وسلم في قبره بأنه صلي الله عليه وسلم لم ينتقل من حياتنا الدنيا، ولم يقبضه الله إليه فذلك باطل بنص القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرِمِن قبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإيْنِ مِتْ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}(1) {إِنَّكَ مَيْتَ وَإِنَّهُم مِّيْتُونَ )(٢).
فالنبي صلي الله عليه وسلم انتقل من هذه الحياة الدنيا، ولكن بانتقاله هذا لم ينقطع عنا صلي الله عليه وسلم وله حياة أخرى هي حياة الأنبياء، وهي التي تسمى الحياة بعد الموت، أو الممات كما سماها صلي الله عليه وسلم حيث قال: (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيَحْدُثُ لَكُمْ، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدَتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِن شَرِّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ)(3).
وقال صلي الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ)(4)، وهذا الحديث يدل على اتصال روحه ببدنه الشريف صلي الله عليه وسلم أبدا؛ لأنه لا يوجد زمان إلا وهناك من يسلم على رسول الله صلي الله عليه وسلم، وحياة النبي صلي الله عليه وسلم بعد انتقاله ليست كحياة باقي الناس بعد الانتقال؛ وذلك لأن غير الأنبياء لا ترجع أرواحهم إلى أجسادهم مرة أخرى، فهي حياة ناقصة بالروح دون الجسد، وإن كان له اتصال بالحياة الدنيا كرد السلام وغير ذلك مما ثبت في الآثار، ولكن الأنبياء في حياة هي أكمل من حياتهم قبل الانتقال وأكمل من حياة باقي الخلق بعد الانتقال.
وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام يعبدون ربهم في قبورهم، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (أتيت -وفي رواية هَدَابٍ: مَرَرْتُ- عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِي بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأحمرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي في قبره)(5)، وعنه صلي الله عليه وسلم: (الأنبياء أحياء في قبورهم يُصَلُّونَ)(6)، ويدل هذا الحديث على أنهم أحياء بأجسادهم وأرواحهم لذكر المكان حيث قال (في قبورهم)، ولو كانت الحياة للأرواح فقط لما ذكر مكان حياتهم، فهم أحياء في قبورهم حياة حقيقية كحياتهم قبل انتقالهم منها، وليست حياة أرواح فحسب؛ كما أن أجسادهم الشريفة محفوظة يحرم على الأرض أكلها، فقد صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ)(7).
فالنبي صلي الله عليه وسلم حي في قيره بروحه وجسده، وجسده الشريف محفوظ كباقي أخوته من الأنبياء، وهو يأنس بربه متعبدا في قبره، متصلاً بأمته، يستغفر لهم، ويشفع لهم عند الله، ويرد عليهم السلام، وغير ذلك الكثير.
فمن كذب بحياة النبي صلي الله عليه وسلم في قبره بعد انتقاله، فقد كذبه صلي الله عليه وسلم فيما ذكرنا من الأحاديث، ومن كذب أنه انتقل من حياتنا الدنيا، فقد كذب ما ذكرنا من القرآن، والصواب هو أن تثبت انتقاله صلي الله عليه وسلم من الحياة الدنيا، وتثبت حياته صلي الله عليه وسلم في قبره، وأنه يعبد ربه، ويرد السلام على من سلم عليه، ويشفع لأمته، ويستغفر لهم كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) سورة الأنبياء، آية : [٣٤].
(۲) سورة الزمر، آية: [۳۰].
(۳) أخرجه البزار في مسنده ٤-٩، ج ۵ ص ٣٠٨، والـديلمي في مسند الفردوس : ج ۲ ص ۱۳۷، والحارث في مسنده بزيادات الهيثمي : ج ٢ ص ٨٨٤، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد: ج ٩ ص ٢٤ وعقبه بقوله ورجاله رجال الصحيح.
(٤) أخرجه أحمد في مسنده: ج ۲ ص ٥٢٧، وأبو داود في سننه : ج ۲ ص ۲۱۸، والطبراني في الأوسط: ج ٣ ص ٢٦٢، والبيهقي في الكبرى: ج ٥ ص ٢٤٥ ، وفي الشعب: ج ۲ ص ۲۱۷، والـديلمي في مسند الفردوس : ج 4 ص ٢٥ ، والمنذري في الترغيب والترهيب: ج ٢ ص ٣٢٦، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج ١٠ ص ١٦٢ ، وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح : ج 6 ص ٤٨٨: ورواته ثقات، ورد على الإشكالات العقلية الواردة عليه.
(5) أخرجه أحمد في مستند: ج ۲ ص ٣١٥، ومسلم في صحيحه : ج 4 ص ١٨٤٥، والنسائي في الكبرى: ج ۱ ص ٤19، وابن حبان في صحيحه : ج 1 ص ٢٤٢، وابن أبي شيبة في مصنفه: ج 7 ص ٣٣٥، والطبراني في الأوسط: ج 8 ص 13
(6) أخرجه الـديلمي في مسند الفردوس : ج 1 ص ١٩٩، وأبو يعلى في مسنده: ج6 ص ١٤٧، وابن عدي في الكامل: ج ۲ ص ٣٢٧، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: ج ٨ ص ٢١1، وعقيه بقوله ورجال أبو يعلى ثقات.
(7) أخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص 8، وأبو داود في سننه : ج ١ ص ٢٧٥، والنسائي في سننه : ج ٣ ص ٩١، وابن ماجه في سننه: ج ١ ص 5٢٤، والدارمي في سننه، ج 1 ص ٤٤5، والحاكم في المستدرك: ج 1 ص ٤١٣، وعقبه بقوله: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ورواه البيهقي في الصغرى : ج ۱ ص ۳۷۲، والكبري: ج ۳ ص ٤۲۸.