التعريف به:
هو أحد سادات التابعين الكرام قال عنه أبو نعيم: «ومنهم الفقيه الواعي البصير الراعي، العابد الطاوي، أبو سليمان داود بن نصير الطائي، أبصر معتبرًا، وسبق مبتدرًا، تشمر منتصباً، وانتظر مرتقباً، أضناه الفرق، وألهاه القلق. وقيل: إن التصوف تشمر لاستباق، وتضمر للحاق».
مناقبه ومروياته:
روي عن عبد الله بن محمود بن سلمة بن سعيد، قال: لقي داود الطائي رجل فسأله عن حديث؛ فقال: دعني، فإني أبادر خروج نفسي، فكان سفيان إذا ذكر داود، قال: أبصر الطائي أمره.
وروي عن الحسن بن عیسی قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول : وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي.
وروي عن إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا أبو عمران، ثنا أسود بن سالم: أن داود الطائي كان يقول: سبقني العابدون وقطع بي، والهفاه.
وروي عن أبي يعلى الموصلي، ثنا محمد ابن الحسين البرجلاني، ثنا ظفر بن عبد الرحمن -عم يحيى الحماني - قال: قلت لداود: يا أبا سليمان. ما ترى في الرمي فإني أحب أن أتعلمه، قال: إن الرمي لحسن، ولكن هي أيامك، فانظر بم تقطعها.
وروي عن عبد الله بن أحمد الخراساني، قال: قال سفيان بن عيينة : كان داود ممن فقه، ثم علم، ثم عمل، وكان يجالس أبا حنيفة فحذف يوما إنسانًا؛ فقال له أبو حنيفة يا أبا سليمان طالت يدك، وطال لسانك، قال: ثم كان يختلف ولا يتكلم، قال: فلما علم أنه بصير عمد إلى كتبه ففرقها في الفرات، وأقبل على العبادة وتخلى، وكان زائدة بن قدامة صديقا له، قال: فأتاه يوما؛ فقال: يا أبا سليمان ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ۱-۲] قال: وكان يجيب في هذه الآية فقال له: يا أبا الصلت. انقطع الجواب، ودخل بيته.
وروي عن أبي سفيان عبد الرحيم بن مطرف الرواسي ابن عم وكيع بن الجراح بالجزيرة يقول: قال ابن السماك في زهد داود الطائي حين مات يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا عموم القلب، وهموم النفس، وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة. وإن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأعشى بصر قلبه بصر العيون، فكأنه لم يبصر ما إليه
تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم وماتت من حبها قلوبكم، وعشقتها أنفسكم، وامتدت إليها أبصاركم، استوحش الزاهد منكم، فكنت إذا نظرت إليه عرفت أنه من أهل الدنيا وحش، وذلك أنه كان حيا وسط موتى. يا داود ما أعجب شأنك، وقد يزيد في عجبك أنك من أهل زمانك، ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل أهنتها وإنما تريد كرامتها، وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب وغيبتها عن الناس كي لا تذكر، ورغبت بنفسك عن الدنيا فلم تر لها قدرًا ولا خطرًا. ورغبت بنفسك عن الدنيا عن أزواجها ومطاعمها وملابسها إلى الآخرة وأزواجها ولباسها وسندسها وحريرها وإستبرقها، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت، وظفرت بما فيه رغبت، كان سيماك في عملك وسرك، ولم تكن سيماؤك في وجهك ولا إظهارك، فقهت في دينك، ثم تركت الناس يفتون ويتفقهون، وسمعت الأحاديث ثم تركت الناس يتحدثون ویروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون. لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الأمراء هدية، ولا تدنيك المطامع، ولا ترغب إلى الناس في الصنائع آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالسًا، فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وأنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون من الطعام والحلاوة ما يأكلون، وأما أنت فإنما هي خبزة أو خبزتان في شهرك ترمى بها في دن عندك. فإذا أفطرت أخذت منها حاجتك فجعلته في مطهرتك، ثم صببت من الماء ما يكفيك، ثم اصطبغت به ملجأ، فهذا إدامك وحلواؤك وكل نومك، فمن . بمثلك صبر صبرا صبرك أو عزم عزمك، وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين، ولا أحسبك إلا قد أتعبت العابدين.
داود أنت كنت حيا في الآخرين، وقد لحقت بالأولين، وأنت في زمن الراغبين، ولقد أخذت بذروة الزاهدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوسًا فيأنس بهم؛ لأن العدد كثير منهم معه، وأما أنت فسجنت نفسك في بيتك وحدك، فلا مُحدّث ولا جليس معك، فلا أدري أي الأمرين أشد عليك؟ الخلوة في بيتك تمر به الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب لا تأكل منها ولا تريح إلى شيء منها؟ لا ستر على بابك ولا فراش ،تحتك ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة فيه غداؤك وعشاؤك، مطهرتك قلتك، وقصعتك تورك، وكل أمرك داود عجبًا، أما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه بلى. ولكنك زهدت فيه لما بين يديك مما دعيت إليه ورغبت فيه، فما أصغر ما بذلت وما أحقر ما تركت وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت أو طلبت.
أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل، وسعيت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهوة عنك في حياتك لكيلا يدخلك عجبها، ولا تلحقك فتنتها، فلما مت شهرك ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، فلم تنثر ما عملت في سرك، فأظهر الله اليوم ذلك، وأكثر نفعك، وخشيت الجماعة، فلو رأيت اليوم كثرة تبعك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك؛ فقل لعشيرتك: اليوم تتكلم بألسنتها، فقد أوضح اليوم ربك فضلها أن كنت منها، فلو لم تسترح إلى خير تعمله إلا حسن هذا النشر، وجميل هذا المشهد لكثرة هذا التبع، إن ربك لا يضيع مطيعًا، ولا ينسى صنيعا، يشكر لخلقه ما صنع فيما أنعم عليهم أكثر من شكرهم إياه؛ فسبحانه شاكرًا مجازيًا مثيبًا.
وروي عن محمد بن الصباح، قال: قال ابن السماك في جنازة داود الطائي: ما أعجب شأنك، وقد يزيد في عجبنا أنك من أهل زمانك، قبرت نفسك قبل أن تُقْبر، وأمتها قبل أن تموت، عمدت إلى خبزة أو خبزتين فألقيتها في دن عندك ، فإذا كان الليل قربت مطهرتك وأخرجت، فصببت عليها من الماء ثم أدمتها، فهو أدمك وهو حلواؤك، أيبست الطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه لم تر ما تركت عظيمًا؛ فآنس ما يكون الناس أوحش ما تكون، وأوحش ما يكون الناس آنس ما تكون تفقهت لنفسك وتركت الناس يتفقهون، وتعلمت لنفسك وتركت الناس يتعلمون، فمن سمع بمثلك عزم مثل عزمك ، وفعل مثل فعلك، عزلت الشهوة عنك في حياتك كي لا تصيبك فتنتها، فلما مت شهرك ربك، وألبسك رداء عملك، وحسد الجماعة لك، فلو رأيت اليوم تبعك علمت أنه قد كرمك وشرفك، ولو أن طيئًا تكلمت بألسنتها شرف بك لحق لها إذ كنت منها أبا سليمان.