فالصدق في الحلال إذا وجدته، أن تأخذ منه مالا بد منه على قدر معرفتك بنفسك، وما يقيم ميلها، ولا تحمل عليها فوق طاقتها فتنقطع، ولا تصبر معها إلى ما تهواه من السرف، ولكن خذ ما يقيمك بلا تقتير ولا سرف في الطعام واللباس والمسكن، واحذر الفضول مخافة الحساب وطول الوقوف.
فهكذا يروى: أن رجلًا قال لعلي بن أبي طالب رضى الله عنه:«يا أبا الحسن، صف لنا الدنيا فقال: حلالها حساب، وحرامها عذاب أو عقاب».
فإذا كان العبد ضعيفًا([1])، ثم ملك الشيء الطيب؛ حبسه على نفسه وعلى من يمون([2])، فأنفق منه بالمعروف مخافة أن يكون إذا أخرجه لم يصبر وجزع، فوقع فيما هو أردى منه، فكان في حبه إياه مزريًا([3])، على نفسه من ادخاره، حين عدم من نفسه الثقة بالله تعالى، والكون إليه دون الشيء، فيكون كذلك حتى يقوى عزمه.
قلت: فكيف ملك الأنبياء عليهم السلام الأموال والضياع، مثل: داود وسليمان وإبراهيم وأيوب، ونظرائهم، ويوسف عليه السلام، على خزائن الأرض، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والصالحين من بعد؟
فقال: هذه مسألة كبيرة، وفيها كثير؟
اعلم أن الأنبياء عليهم السلام، والعلماء والصالحين من بعدهم، رضي اللَّه عنهم أمناء الله تعالى، في أرضه على سره وعلى أمره ونهيه وعلمه وموضع وديعته، والنصحاءُ له في خلقه وبريته، وهم الذين عقلوا عن الله تعالى، أمره ونهيه، وفهموا لماذا خلقهم، وما أراد منهم، وإلى ما ندبهم([4])؟ فوافقوه في محبته، ونزلوا في الأمور
عند مشيئته، ثم وقفوا عند ذلك مواقف العبيد الألباء، القابلين على الله، والحافظين لوصيته، وأصغوا إليه بآذان فهومهم الواعية، وقلوبهم الطاهرة، ولم يتخلفوا عن ندبته([5])، فسمعوا الله عز وجل يقول:﴿آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾([6])، ثم قال:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾([7])، وقال تعالى:﴿للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾([8])، وقال تعالى:﴿أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾([9]).
فأيقن القوم: أنهم وأنفسهم لله تعالى، وكذلك ماخولَّهم وملَّكهم، فإنما هو له، غير أنهم في دار اختبار وبلوى، وخلقوا للاختباروالبلوى في هذه الدار.
وهكذا يروى عن ابن الخطاب رضى الله عنه، حين سمع:
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ([10]) لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾([11]).
قال: ياليتها تمت؟! يعني عمر، قبل قراءة:﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾:فَهمهم، يقال في التفسير: عجز في التلاء عجزًا([12]).
ومعنى قول عمررضى الله عنه:«ياليتها تمت» يعني: لم يخلق، حين سمع الله تعالى، يقول: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾.
وذلك من معرفة عمررضى الله عنه بواجب حق الله، وقدر أمره ونهيه، وعجز العباد عن القيام به، وقيام الحجة لله تعالى عليهم عند تقصيرهم، وما تواعدهم به إذا ضيعوا.
ويروى عن الحسن رضى الله عنهأنه قال:«إن الله تعالى، إنما أهبط آدم عليه السلام إلى الدنيا عقوبة، وجعلها سجنًا له حين أخرجه من جواره، وصيره إلى دار التعب والاختبار».
فمن ملك من أهل العمل عن الله تعالى وأهل الصدق، شيئًا من الدنيا فهو معتقد أن الشيء لله جل وعز لا له، إلا هو من طريق حق ما خوَّله([13]) الله تعالى، وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه؛ لأن النعمة بلاء، حتى يقوم العبد بالشكر فيها، ويستعين بها على طاعة الله تعالى.
وكذلك البلوى والضراء، هو: اختبار وبلاء، حتى يصير عليه، ويقوم بحق الله تعالى فيه.
وكذلك قال بعض الحكماء: العلم كله بلاء حتى يُعمل به.
قال الله عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾([14]).
وقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾([15]).
فالأنبياء صلوات الله عليهم، والصالحون من بعدهم، الذين أشعرهم الله بأن أبلاهم في الدنيا بالسعة وخوَّلهم، كانوا إلى الله جل وعز ساكنين، لا إلى الشيء، وكانوا خُزَّانًا لله جل وعز ذكره في الشيء الذي ملكهم، ينفذونه في حقوق الله تعالى، غير مقصرين، ولا مفرطين، ولا متوانين، ولا متأوِّلين على الله التأويل، وكانوا غير متلذذين بما ملكوا، ولا مشغولي القلوب بما ملكوا، ولا مستأثرين به دون عباد الله تعالى.
ومن ذلك ما روي عن سليمان بن داود عليهما السلام في ملكه، وما أباحه الله تعالى من الكرامة، حين يقول تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([16])
قال أهل التفسير: لا حساب عليك في الآخرة، وإنما كان عطاء هيِّنًا؛ إكرامًا من الله عز وجل له.
فذكر العلماء، أن سليمان عليه السلام كان يطعم الأضياف الحوارى([17]) النقى، ويطعم عياله الخشكار([18]) ويأكل هو الشعير.
وكذلك روى العلماء، أن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، كان لا يأكل إلا مع الضيف، فربما لا يأتيه ثلاثة أيام الضيف فيطويها، وربما كان يمشي الفرسخ([19])، أو أقل أو أكثر؛ تلقيًا للضيف».
قال: وكان أيوب النبي عليه السلام، لا يسمع أحدًا يحلف بالله تعالى، إلا رجع إلى منزله فكفر عنه([20]).
وروى العلماء، أن يوسف عليه السلام كان على خزائن الأرض، فكان لا يشبع، فقيل له في ذلك؛ فقال: «أخاف أن أشبع فأنسى الجياع».
ولقد روي أن سليمان عليه السلام، بينما هو ذات يوم والريح تحمله، والطير تظله، والجن والإنس معه، وعليه قميص جديد فلصق ببدنه؛ فوجد اللذة، فسكنت الريح ووضعته على الأرض. فقال لها: مالك؟ فقالت: إنما أمرنا أن نعطيك ما أطعت الله. ففكر في نفسه من أين أتى فذكر؛ فراجع، فحملته الريح.
ولقد روي، أن الريح كانت تضعه في اليوم مرات، من هذا وأشباهه!!.
فالقوم كانوا خارجين من ملكهم في ملكهم، ناعمين بذكر الله وعبادته، غير ساكنين إلى ما ملكوا، لا يستوحشون من فقده إن فقدوه، ولا يفرحون بالشيء، ولا يحتاجون إلى العلاج والمجاهدة في إخراجه.
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾([21]).
وهذا النبي صلى الله عليه وسلم، بينما جبريل عليه السلام عنده؛ إذ تغير جبريل، فإذا ملك قد نزل من السماء لم ينزل قط، فقال جبريل عليه السلام: خشيت أنه نزل فيَّ بأمر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام من عند الله عز وجل، وقال له: هذه مفاتيح خزائن الأرض، تسير معك ذهبًا وفضة، مع البقاء فيها إلى يوم القيامة، ولا تنقصك مما لك عند الله شيئًا، فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: «أجوع مرة وأشبع مرة»([22]).
وعدَّ ذلك من الله عز وجل بلوى واختبارًا، ولم يره من الله تعالى اختيارًا، ولو كان من الله تعالى اختيارًا لقبله، ولكنه علم أنه محبة الله تعالى في الترك للدنيا، والإعراض عن زينتها وبهجتها.
وبذلك أدبه الله تعالى، حين قال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾([23]).
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم، أنه لبس حلة لها علم فطرحها وقال: «كادت تلهينى أعلامها- أو قال ألهتنى أعلامها- خذوني وأتوني بأنبجانية».
وكذلك روي، أنه صنع له خاتم ذهب ليختم به الكتب، إلى من أمره الله تعالى بإنذاره، فلبسه ثم طرحه من يده، وقال لأصحابه: «إليه نظرة وإليكم نظرة».
وكذلك روي، أنه صلى الله عليه وسلم غير شراك نعله، فجعل مكانه جديدًا فقال: «ردوا الشراك الأول».
وكذلك كل قلب طاهر صاف، قد أشرف على الآخرة، وعرف قيام الله تعالى عليه يفزع من خفايا السكون إلى الدنيا، والتحلي بشيء منها.
ومثل هذا في الأخبار كثير، والعاقل الفطن تكفيه الإشارة إليه بالشيء، وهذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حثهم على الصدقة، جاء أبو بكر بماله كله؛ لأنه كان أقوى القوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت لعيالك؟»
قال: الله ورسوله، ولي عند الله مزيد([24]).
أفلا ترى أبا بكر رضى الله عنه، إنما كان سكونًا إلى الله تعالى لا إلى شيء، ولم يكن لشيء عنده قدر، وكان ما عند الله عنده أسر؟!
فحين رأى موضع الحق لم يخلف منه شيئًا، وقال: خلفت الله ورسوله.
ثم جاء عمر رضى الله عنه بنصف ماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت لعيالك؟»
قال: نصف مالى، ولله عندي مزيد؟
فقد أعطى نصف ماله، ويقول: ولله عندي.
ثم عثمان رضى الله عنه يجهز جيش العسرة كله بجميع ما يحتاج إليه، ويحفر بئر رومة([25]).
أفلا ترى أن القوم إنما كانوا معدين الشيء لله تعالى؟!
ومما يدل على صدق قولنا، أن القوم كانوا خارجين مما ملكوا، وهو في أيديهم يعدونه لله عز وجل.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنَّا معشر الأنبياء لا نورث، وما خلفناه صدقة».
أفلا ترى أنهم في حياتهم، لم يضنوا بالشيء عن الله عز وجل؟!
وكذلك لم يورثوه، وخلفوه لله عز وجل، كما كان في أيديهم لله تعالى لم يحدثوا فيه، ولم يخولوه من بعدهم أحدًا.
وإن هذا البلاغ لمن عقل عن الله تعالى وأنصف من نفسه.
وهؤلاء أئمة الهدى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
-أبو بكر رضى الله عنه من حين ملك الأمر، وجاءته الدنيا راغمة من حلها، لم يرفع بها رأسًا، ولم يتصنع وكان عليه كساء يخلله([26])، وكان يُدعى: ذا الخلالين.
-وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حين جاءته الدنيا راغمة من حلها، وكان طعامه الخبز والزيت، وفي ثوبه بضع عشرة رقعة بعضها من أدم، وقد فتحت عليه كنوز كسرى وقيصر.
-وهذا عثمان رضى الله عنه، كأنه واحد من عبيده في اللباس والزى! ولقد روي عنه: أنه رؤي خارجًا من بستان له، وعلى عنقه حزمة من حطب، فقيل له ذلك؛ فقال: أردت أن أنظر نفسي: هل تأبى؟
أفلا ترى أنه كان غير غافل عن نفسه، وتعاهدها ورياضتها؟
-وهذا علي بن أبي طالب رضى الله عنه في الخلافة، قد اشترى إزارًا بأربعة دراهم، واشترى قميصًا بخمسة دراهم، فكان في كمه طول، فتقدم إلى خراز([27])، فأخذ الشفرة، فقطع الكم مع أطراف أصابعه، وهو يفرق الدنيا يمنة ويسرة!
-وهذا الزبير رضى الله عنه يخلف حين مات، من الدين مائتي ألف أو أكثر، كل ذلك من الجود والسخاء والبذل!
-وهذا طلحة بن عبيدالله رضى الله عنه، يعطي حلي أهله لمن سأله!
فهذا يدل على أن القوم كانوا، كما قال الله عز وجل حين أمرهم، فقال:﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾([28]).
ولا يستحي عبد من عبيد الله من أهل زماننا هذا، عندما ملك من الشبهات التي علم الله تعالى، كيف هي؟ ومن أين هي؟ وكيف قدرها في قلبه؟ وإيثاره لها، وسكونه إليها دون الله عز وجل، وما لا يحصى من عيبه في تقلبه في ذلك واشتغاله بذلك.
حتى إن أحدهم ليزعم، أنه يملك كما ملك من مضى، ويحتج بهم في اتباع هواه مع إقامته على خلاف سنة القوم.
بل الاعتراف لله تعالى بالتقصير من العبد الغافل أقرب إلى النجاة، وسؤاله الله عز وجل أن يبلغ ما بلغ بالقوم.
وبالله التوفيق.
([3]) منكرًا على نفسه فعلها إذا أطمأنت إلى الشيء وعدمت الشقة بالله، ويستمر في إنكاره عليها حتى يقوى عزمه.