ولقد فضح الله تعالى الدنيا، وسماها بأسماء لم يسمها أحد.
فقال تبارك تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾([1]).
أفلا يستحي من يعقل عن الله تعالى، أن يراه ساكنًا إلى اللهو واللعب، في دار الغرور؟!
قلت: الدنيا في نفسها، ماهي؟
قال: اتفق البصراء من الحكماء على أن الدنيا هي النفس وما هويت.
والحجة في ذلك أن الله عز وجل قال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ﴾([2]) فهذه الأمور التي ذكرها الله عز وجل، هي من هوى النفس ولذتها، وبها تلهو عن الآخرة وذكرها.
فإذا ترك العبد ما تهواه النفس ترك الدنيا.
ألا ترى أن العبد قد يكون فقيرًا لا شيء له وهو يتمنى الدنيا، ويهوى مجناها، وينوي أن لو أمكنه منها مايريد؛ لتمتع بذلك ونال لذته؟
فهو عند الله تعالى من الراغبين على قدر همته([3])، إلا أنه أقل حسابًا ممن نالها واستمتع بها.
فأول درجات الزهد، هو: الزهد في اتباع هوى النفس، فإذا هانت على المرء نفسه لم يبال على أي حال أمسى وأصبح، إذا وافق محبة الله تعالى عند ذلك
على مخالفة نفسه، ومنعها من محبوبها من الشهوات واللذات والراحات، ومقارنة الأحباء والأخدان والأصحاب من أهل الغفلة، ومن كان منهم غويًّا على ذلك الأمر الذي يريده العبد، فإن آفة العبد: صحبة من يريد ما يريد.
ثم أخذ البلغة من الطعام والشراب واللباس والمنزل والنوم والكلام والنطق والاستماع، وترك التمني لشيء من الدنيا، والحذر من تحليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا خضرة حلوة».
فيتوهم العبد فناءها؛ فيقصر فيها أمله، مع توقع الموت، والتشوف([4]) إلى الآخرة، والشوق إلى النزول في دار بقائها، والعمل في ذلك!
ولذلك يخلع الراحة من القلب بدوام الفكرة، ومن البدن بدوام الخدمة.
فهذا أول درجات الزهد.
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى، ووكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل، وغيرهم رحمهم الله تعالى: إن الزهد في الدنيا قصر الأمال.
وهذا يدل على ما قالت الحكماء؛ لأنه من قصر أمله لم ينعم، وكانت الغفلة منه بعيدة.
وقالت طائفة من الناس: الزاهد في الدنيا هو الراغب في الآخرة، الذي قد جعلها نصب عينيه، كأنه يرى عقابها وثوابها، فهو عازف عن الدنيا.
وهكذا يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لحارثة:«كيف أصبحت ياحارثة؟»، قال: مؤمنًا حقًّا يارسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما حقيقة إيمانك؟». قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت لذلك نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا؛ وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتناعمون، وإلى أهل النار يتعاوون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مؤمن نور الله قلبه، عرفت فالزم»([5]).
وقال بعض العلماء: الزهد خروج قيمة الأشياء من القلب.
والزهد في الدنيا: يدق جدًّا ويخفى، ولكل عبد على قدر علمه بالله تعالى زهد.
فمن نفى الرغبة في الدنيا عن قلبه شيئًا بعد شيء يرى غاية الزهد ومن توانى عن نفسه ولم يخالفها عند هواها، لم يعزف عن الدنيا ولم يشرف على الآخرة.
قال بعض العلماء: الزاهد في الدنيا حقًّا لا يذم الدنيا ولا يمدحها، ولا يفرح إذا أقبلت، ولا يحزن إذا أدبرت([6]).
قال أبو سعيد رحمه الله تعالى، قال بعض البدلاء رحمهم الله تعالى: لا يكون زاهدًا مستكمل الزهد، أو يستوي عنده الحجارة ذهبًا، فعندها تخرج قيمة الأشياء من قلبه.
وسمعته يقول: لم تستوِ الحجارة والذهب، عند أحد من الصحابة رضي الله عنهم، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عند أبي بكر رضى الله عنه.
قلت: فعلى أي معنى زَهِد الزاهدون؟!
قال: على معان شتى.
فمنهم من زهد لفراغ القلب من الشغل، وجعل همه كله في طاعة الله تعالى، وذكره وخدمته، فكفاه الله عند ذلك.
فهكذا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جعل الهم([7])همًّا واحدًا كفاه الله سائر همومه».
وقال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم: إن الدنيا رأس كل خطيئة، وفي المال داء كبير. قالوا: ياروح الله، ماداؤه؟ قال: لا يعطى حقه. قالوا: فإن أعطى حقه.
قال: يكون فيه فخر وخيلاء. قالوا: فإن لم يكن فيه فخر ولا خيلاء. قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.
ومنهم من زهد لخفة الظهر، وسرعة الممر على الصراط، إذا حُبس أصحاب الأثقال للسؤال.
فهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «عرض عليَّ أصحابي، ففقدت عبد الرحمن بن عوف- أو قال احتبس على- فقلت: «ما بطأك علي؟»
قال: لم أزل أحاسب بعدل([8]) مكثرة مالي، حتى جرى مني من العرق ما لو وردت عليه سبعون من الإبل عطاشًا قد أكلت حمضًا([9])؛ لصدرت([10]) عنه رواء!».
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق أنه قال: «الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا هكذا، عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، بين عباد الله».
قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ غَنِيٍّ وَلاَ فَقِيرٍ إِلاَّ وَدَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ اللَّه تعالى، كان جعل رزقه في الدنيا قوتًا»([11]).
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يسرني أن لي مثل أحد ذهبًا، أنفقه في سبيل اللَّه تعالى، تأتي علي ثالثة، يكون منه عندي شيء إلا دينار أرصده لدين».
ومنهم: من زهد؛ رغبة في الجنة واشتياقًا إليها، فسلى عن الدنيا وعن لذاتها، حتى طال به الشوق إلى ثواب الله تعالى، الذي دعاه إليه، ووصفه له عز وجل([12]).
وروي في الحديث: أن الله جل ذكره يقول: «وأما الزاهدون في الدنيا؛ فإني أبيحهم الجنة».
وقال بعض العلماء: لا تحسن قراءة إلا بزهد!
وأعلى درجات الذين زهدوا في الدنيا، هم الذين وافقوا الله تعالى في محبته، فكانوا عبيدًا عقلاء عن الله عز وجل، أكياسًا محبين، سمعوا الله جل ذكره، ذم الدنيا، ووضع من قدرها، ولم يرضها دارًا لأوليائه، استحيوا من الله عز وجل، أن يراهم راكنين إلى شيء ذمه ولم يرضه، وجعلوا ذلك على أنفسهم فرضًا، لم يبتغوا عليه من الله عز وجل جزاء، ولكن وافقوا الله في محبته([13]) كرمًا، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
فأهل الموافقة لله تعالى في الأمور: هم أعقل العبيد، وأرفعهم عند الله قدرًا.
وهكذا روي عن أبي الدرداء رضى الله عنه، أنه قال: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم! كيف غنموا سهر الحمقى وصيامهم؟! ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أوزن عند الله من أمثال الجبال من أعمال المغترين»([14]).
وفي هذا بلاغ لمن عقل عن الله عز وجل.
وبالله التوفيق.
وروي عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، أنه نظر إلى شاب مصفر، فقال له: «ماهذا الصفار ياغلام؟». قال: أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين! قال: لتصدقني! قال: أسقام وأمراض. قال: لتخبرني!
قال: يا أمير المؤمنين، عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وأهل النار في النار يتعاوون([15]).
فقال له عمر: أنى لك هذا يا غلام؟
قال: اتق الله يفرغ عليك العلم إفراغًا([16]).
إنه لما قصر بنا عن علم ما عملنا تركنا العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمناه لورثنا علمًا لا تقوم له أبداننا([17]).
وروي عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه: أنه استسقى، فأتى بإناء فلما قربه إلى فمه وذاقه نحاه ثم بكى، فقيل له في ذلك.
فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم وهو يدفع بيديه كأن شيئًا يقع، لا أرى شيئًا، فقلت: يا رسول الله، أراك تدفع بيديك ولا أرى شيئًا! فقال: «نعم، تلك الدنيا تمثلت لي في زينتها»، فقلت: «إليك عني([18])»، فقالت: إن تنج مني فلن ينجو مني من بعدك. قال أبو بكررضى الله عنه: فأخاف أن تكون أدركتني.
قال: وكان في الإناء الذي شرب أبو بكر رضى الله عنه منه: ماء وعسل، فبكى إشفاقًا من ذلك.
ويروى في بعض الحديث، أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يأكلوا تلذذًا، ولم يلبسوا تنعمًا([19]).
وفي رواية، أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، الذين اتسعوا في الدنيا من بعده- حين فتحت عليهم من حلها- أنهم بكوا من ذلك وأشفقوا، وقالوا: نخاف أن تكون عجلت لنا حسناتنا.
فليتق الله عبد، ولينصف من نفسه، وليلزم منهاج من مضى، وليعترف بالتقصير، ويسأل الله الإقالة!
([6]) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ﴾ [الحديد:23].
([11]) وفي ذلك أيضًا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا» وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتنى مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين».
([12]) وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ﴾ الأنفال:67. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾ [النَّازعات:40-41].
([13]) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه﴾ وقوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البيِّنة:8].
([14]) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الله في أصحابي، فوالله لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
([15]) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء وحق لها أن تئط، لم يبق فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفراش، ولخرجتهم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى».
([16]) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ [البقرة:282]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11] والآيات كثيرة جدًّا في هذا الباب.