قال الله عز وجل: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾([1])، وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾([2])، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾([3]).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من أمتي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وهُمُ لاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»([4]).
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا([5]) وَتَرُوحُ بِطَانًا»([6]).
وقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: العز والغنا يجولان في طلب التوكل، فإذا أصاباه أوطنا.
فالتوكل في نفسه ووجوده في القلب: هو التصديق لله عز وجل، والاعتماد عليه، والسكون إليه، والطمأنينة إليه في كل ما ضمن، وإخراج الهم من القلب بأمور الدنيا والرزق، وكل أمر تكفل الله به، والعلم بأن كل ما احتاج إليه العبد من أمر الدنيا والآخرة؛ فالله مالكه والقائم به لا يوصله إليه غيره، ولا يمنعه غيره مع خروج الرغبة والرهبة والخوف من القلب ممن سوى الله تعالى، والثقة به والعلم الخالص، واليقين الثابت أن يد الله المبسوطة إليه، الموفية له من كل ما طلب، فلا يصل إليه معروف إلا من بعد أمره، ولا يناله مكروه إلا من بعد إذنه!
وهكذا روي عن الفضيل، أنه قال: المتوكل على الله، الواثق به، لا يتهمه، ولا يخاف خذلانه.
وكذلك المتوكل على الله إذا ملكه الله تعالى شيئًا من أمر الدنيا وفضل عنده، لم يدخره لغد إلا بالنية أن الشيء إنما هو لله، وموقوف لحقوق الله، وهو خازن من خزَّان الله، فإذا رأى موضع الحاجة سارع إلى الإخراج والبذل والمواساة، وكان في الذي يملك وإخوانه سواء.
وإنما يجب ذلك عليه لأهل الستر خاصة، والقرابة وأهل التقوى، ثم لعامة المسلمين، إذا رآهم على حال ضرورة غير نقص حالهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وإذا أصابتك مصيبة كنت بثوابها أفرح منك بها لو بقيت عنك»([7]).
وقال بلال رضى الله عنه: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي تمر فقال: «ماهذا؟».
قلت: شيء ادخرته لإفطارك.
فقال: «انفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا، أما خشيت أن يكون له بخار في جهنم؟!» ([8]).
ويروى عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: إني لست كأسماء- يعني أختها- إن أسماء لا ترفع شيئًا لغد، وأنا أجمع الشيء إلى الشيء.
وروي عن عائشة أيضًا رضي الله عنها، أنها فرقت الدراهم، وهي ترفع درعها، فقالت لها خادمتها: ألا أبقيت درهمًا للحم؟ قالت: أفلا ذكرتني؟!.
وروت عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه بات في مرضه الذي قبض فيه شبيهًا بالقلق، فلما أصبح قال: «ما فعلت الذهبية؟ - وكانت قيمتها ستة وخمسين درهمًا- فقال: «أخرجيها، فما ظن محمد بربه لو لقيه وهذه عنده؟!».
وروي عن مسروق رحمة الله عليه، أنه قال: أوثق ما أكون بالله إذا قال الخادم: ليس عندنا شيء.
قلت: فالتوكل على الله تعالى بالأسباب أو بقطع الأسباب؟.
قال: بقطع أكثر الأسباب، وتتخطى إلى المسبب، فتسكن إليه([9]).
قلت: وهل يتداوى المتوكل، أو يتعالج؟
قال: الأمر في هذا على معان ثلاثة، وقد خصَّ تبارك وتعالى بترك الدواء والأسباب طائفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من أمتي سَبْعُونَ أَلْفًا بِلاِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»([10]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما توكل من اكتوى واسترقى!»([11]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ فَقَدْ قارن الَشْرَكَ»([12]).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالدواء والرقي وأمر بالرقية، وقطع لأبي بن كعب رضى الله عنه عرقًا.
فهذا على معاني قول المغيرة بن شعبة: لم يتوكل من اكتوى واسترقى من هؤلاء السبعين ألفًا، الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك فسره بعض العلماء.
وما كان من سوى ذلك فمباح لهم من سائر الناس، وهو غير ناقص من توكلهم، إذا كان معهم العلم والمعرفة، وكان نظرهم إلى رب الداء والدواء، إن شاء أن ينفع بالدواء، وإن شاء أن يضر.
وقد طلب شفاءه بالدواء فيكون فيه سقمه، وقد مات غير إنسان من الدواء وقطع العرق، ولما طلب الشفاء، وقد يرجو منفعته في الشيء فتكون فيه مضرته، وقد يخاف الضرر من شيء، فتكون فيه المنفعة.
فالصادق واثق متوكل على ربه، فإنما توكل عليه، حين علم أنه حسبه من جميع خلقه، فلم يجد فقد شيء يمنعه الله؛ لأن الله حسبه وهو بالغ أمره.
قلت: فمن قال: أتوكل على الله لأكفى؟
قال: لا يخلو هذا القول من معنيين:
معنى: أن يكفيه مؤنة الجزع والهلع؛ لأنه يتحول عن شيء قد قدره الله عليه أن ينزل به، بالتوكل.
فهذا قولنا وقول من أثبت القدر.
ومن قال: إنه يكفيه من استكفاه لا محالة مثل قوله: لا يأكلني السبع لتوكلي، والذي يأتيني بطلب يأتيني بلا طلب، فالتوكل يدفع عني إذا أستكفيه كل مؤنة كنت أخافها، فليس يعجبنا هذا القول؛ لأن المتوكل قد يكفى وقد لا يكفى وتوكله غير ناقص.
قلت: مثل ماذا؟ اشرح لي من ذلك شيئًا.
قال: نعم، حيث ذبحت يحيى بن زكرياء امرأة جبارة في طشت، ألم يكن متوكلًا؟!.
وكذلك الأنبياء عليهم السلام، قتلوا ونيل منهم المكروه، وهم أقوى الخلق يقينًا وأصدقه.
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم، حين هرب إلى الغار هو وأبو بكر رضى الله عنه، فاختبئوا فيه، وحين كسر المشركون رباعيته صلى الله عليه وسلم، وأدموا وجهه ألم يكن متوكلًا؟.
أفلا ترى أن التوكل إنما هو الاعتماد على الله عز وجل، والسكون إليه ثم التسليم بعد ذلك لأمره، يفعل مايشاء؟!
وهكذا روى عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: من يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قال: قاض أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
قال أجلًا ومنتهى ينتهي إليه العبد، وليس المتوكل بالذي يقول: تقضى حاجتي.
فهذا تفسير ابن مسعود رضى الله عنه، يخبر أن المتوكل على الله هو الذي يلجأ إلى الله تعالى، ويعلم أنه لا يتم شيء إلا من قبل الله تعالى، الذي يعطي ويمنع بقدرته.
فالمتوكل على الله تعالى لا يستوحش في حالة المنع، ولا يستجلب بالمتوكل الإعطاء؛ لأن الحرص لا يعطي ولا يمنع، والله جل وعز مانع ومعطي.
وقد يعطي العبد الشيء بلا توكل، ويمنع وهو متوكل.
فقد يرى المجوس، والكافر، والجاحد، والفاجر، المضيع لأمر الله عز وجل، الذي لا صدق له ولايقين، فقد يرى هازلون يكفرون وتقضى لهم الحوائج، والمتوكل الصادق الموقن لا تقضى له حاجة، حتى يموت ضراء وهزلاء!
وإنما التوكل ترك السكون إلى أسباب الدنيا، ونفي الطمع من المخلوقين، والإياس منهم، حين علم المتوكل: أنه صائر إلى المعلوم، فرضي بالله تعالى، وعلم أنه لا يدرك بالتوكل تعجيل ما أخر الله تعالى، ولا تأخير ما عجل، ولكنه اكتسب إسقاط الهلع والجزع، واستراح من عذاب الحرص، وراض نفسه بأدب العلم والمعرفة وقال: ما قدر سيكون وما يكون فهو آت.
وكذلك قال بعض الحكماء: انتقم من حرصك بالقنوع، كما تنتقم من عدوك بالقصاص.
وقال بعض الصحابة رضوان الله عليهم: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي البيت تمرة غابرة فقال: «خذها، لو لم تأتها لأتتك».
حدثنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا مروان بن معاوية قال: حدثنا المعلى عن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم طوائر فأطعم خادمًا طائرًا، فلما كان من الغد أتيته به فقال: «ألم أنهك أن تخبأ رزقًا لغد؟».
فهذا ما لا يسع الناس جهله من التوكل، وغاية التوكل: أجل من ذلك.