وقد أجمع الحكماء أنها تستخرج من ذكر النعم.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِى لِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِى لِحُبِّى»([1]).
وقال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾([2]).
وبلغنى أن الله عز وجل أوحى إلى عيسىى عليه السلام: «يا عيسى بحق أقول لك: إنى أَحَبُّ إلى عبدى المؤمن من نفسه التى بين جنبيه».
وبلغنا عن الحسن البصرى رضى الله عنه، أن ناسًا قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله إنا نحب ربنا حبًّا شديدًا، فجعل الله تعالى لمحبته علمًا وأنزل عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾([3]).
ومن صدق المحبة: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في هديه، وزهده وأخلاقه، والتأسي به في الأمور، والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها، فإن الله عز وجل جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم عَلمًا ودليلًا وحجة على أمته.
ومن صدق المحبة لله تعالى: إيثار محبة الله عز وجل في جميع الأمور على نفسك وهواك، وأن تبدأ في الأمور كلها بأمره قبل أمر نفسك.
وبلغنا أن موسى عليه السلام، قال: يارب أوصني. قال الله عز وجل: «أوصيك بي».
قال: يارب كيف توصيني بك؟.
قال: «لايعرض لك أمران؟ أحداهما لى والآخر لنفسك، إلا آثرت محبتي على هواك».
فالحب لله قد جعل ذكر الله تعالى بقلبه ولسانه فرضًا على نفسه، فهو يتفرغ من الغفلة واستغفر منها، وكذلك جوارحه، إنما هي وقف لخدمة من أحبه.
فهو غير ساه ولا لاه وإنما همه أن يرضي من أحبه، فقد بذل المجهود في موافقته في أداء فرائضه، واجتناب مناهيه، فهو متزين له بكل طاقته، حذرًا من أن يأتي عليه أمر يسقطه من عين من أحبه.
وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق، أنه قال: «يقول الله عز وجل: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ َسْمَعًا وَبَصَرًا وَمُؤَيِّدًا، دعاني فأجبته، ونصح لي فنصحت له»([4]).
فعلامة المحب الموافقة للمحبوب، والتجاري([5]) مع طرقاته في كل الأمور، والتقرب إليه بكل حيلة، والهرب من كل مالا يعينه على مذهبه([6]).
قلت: فالمحبة على قدر النعم؟
قال: المحبة بدؤها من ذكر النعم، ثم على قدر المنعم على قد ما يستحق؛ لأن المحب لله تعالى يحب الله تعالى عند النعم وعند فقدها، وعلى كل حال حبًّا صحيحًا، منعه أو أعطاه أو ابتلاه أو عافاه؛ فالمحبة لازمة لقلبه، على حالة واحدة، في العقد([7])، ثم هي إلى الزيادة أقرب.
ولو كانت على قدر النعم؛ لنقصت المحبة إذا نقصت النعم في وقت الشدائد ووقوع البلاء، لكن المحب لله تعالى الذي وله([8]) عقله بربه، واشتغل برضاه فكان في شكره لله وذكره حيران، كأنه ليس نعمة على أحد إلا وهي عليه، وهو مشغول بحبه لله عز وجل عن كل الخلق، وقد أسقطت المحبة لله تعالى، عن قلبه الكبر والغل والحسد والبغي، وكثيرًا مما يعنيه من أمر الدنيا من مصلحة، فكيف يذكر ما لا يعنيه؟!
قال بعض الحكماء: من أعطى من المحبة شيئًا فلم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع.
وروي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى، أنه قال: الحب أفضل من الخوف.
وحدثنا إسماعيل بن محمد قال: حدثني زهير البصري قال: لقيت شعوانة، فقالت لي: ما أحسن طريقتك إلا أنك تنكر المحبة!
قلت: ما أنكرها؟
فقالت لي: أتحب ربك؟
فقلت: نعم.
قالت: فكيف تخاف ألا يحبك وأنت تحبه؟!
قلت: أنا أحبه لما أولاني وماندَّاني([9]) من معرفته ونعمه، ولي ذنوب أخاف ألَّا يحبني لما كسبت([10])!
فغشي عليها، ثم أفاقت فقالت: زه!
قال أبو سعيد رحمه الله تعالى: ما أحسن ما قال هذا الرجل! هذا كلام صحيح.
قال أبو سعيد قدس الله روحه: قال رجل من رفعاء البدلاء: من يحب الله كثير الشأن فيمن يحبه الله.
وبالله التوفيق.
وفي هذا بلاغ لمن أعانه الله تعالى وسدده، وما بقي من صفات المحبين أكثر!