[الوقفات الأربعة حول المساجد الملحق بها أضرحة والصلاة فيها]
#الوقفة_الأولى
لم يسلم أحد من المسلمين على مر العصور، من فكر المتشددين وتطرفهم، فمن أخطر الصفات الملازمة لعقلية المتشدد: تسمية الأشياء بغير أسمائها، رمي أهل السنة بالبدعة تارة، وتفسيقهم تارة أخرى، بناءً على تصورات مغلوطة قامت في أذهانهم.
انظر معي إلى حال المتشددين عندما ذهبوا لآيات نزلت في «الكفار» فجعلوها في«المؤمنين»، ومن هذا وصفهم المسلمين الموحدين «بعباد القبور»؛ لأنهم يصلون بمساجد بها أضرحة .
وهنا سأقف قليلاً حتى أعرض على هذا الأخ الذي يفسق الناس ويبدعهم، ويحكم على صلاتهم بالبطلان، ويصفهم بالشرك والضلال، عدة أسئلة :
(١)- هل كانت أم المؤمنين السيدة عائشة «قبورية»؛ حيث كانت _رضي الله عنها _ تصلي الفرض والنافلة في حجرتها التي دفن بها رسول الله _ ﷺ _؟!
(٢)- هل كان أصحاب رسول الله _ ﷺ _ «عباد قبور»؛ لصلاتهم في مسجد الخيف الذي دُفن فيه جمع من الأنبياء، ولصلاتهم بحِجر إسماعيل الذي قيل : إن كثيرًا من الأنبياء دفنوا به ؟!
(٣)- هل أئمة الدين من التابعين كانوا «عباد قبور»؛لأنهم صلوا، وافقوا على توسعة المسجد النبوي وخروج الروضة الشريفة التي دُفن بها سيدنا محمد ﷺ لتكون داخل المسجد؟!
(٤)- هل علماء الأزهر الشريف «عباد قبور»؛ لأنهم يصلون في الجامع الأزهر منذ مئات السنين، وبه قبور عديدة من أشهرها هذه الستة :
أولا- قبر الأمير علاء الدين طيبرس.
ثانياً - قبر الأمير أقبغا عبد الواحد.
ثالثاً - قبر الأمير جوهر القنقبائي.
رابعاً - قبر الأميرة نفيسة البكرية.
خامسًا - قبر الأمير عبد الرحمن كتخدا.
سادسًا- قبر الشريف محمد الأخرس القرافي .
السؤال الخامس: ألم يبلغك أن هذه الأمة معصومة من الوقوع في الشرك، أي: عبادة غير الله تعالى، واعتقاد الشريك له فلا يقع هذا في المسلمين بشهادة الصادق الأمين ﷺ الذي قال: «وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا»، فكيف تصف جماهير الأمة من السلف والخلف «بالقبورين»؟!
#الوقفة_الثانية
يتشدق المتشدد بكلام، لا يسعني إلا أن أقول فيه : قوله أنجس من بوله؛ حيث قال لي : « يجب هدم المساجد الملحق بها أضرحة؛ لأنها مظهر من مظاهر الشرك والوثنية».
فقلت له: كيف تزعم أنك تتبع خير المرسلين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم من السلف المتقين، وأنت تخالف بأقوالك، وأفعالك الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف الصالح من هذه الأمة، كما أن كلامك هذا يدعو إلى الفرقة بين الناس ، فأريد أن أعرف منك ما دليلك أولًا على قولك : بهدم المساجد الملحق بها أضرحة ؟
فقال لي : أدلة الهدم كثيرة جدًا، منها :
(١) ـ خبر جابر بن عبد الله:«نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر،وأن يقعد عليه ،وأن يبنى عليه».
(٢)- حديث أبي الهياج الأسدي عن علي بن أبي طالب قال :«ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللهﷺ،أنْ لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفًا،أي: مرتفًا عن الأرض إلا سويته».
فقلت له : إن استدلالك بهذه الأحاديث على هدم الأضرحة استدلال خاطئ، وذلك من وجوه، منها:
(١)- هذه الأحاديث لها توجيه لابد أن تفهمه، وهو أن رسول الله _ ﷺ_ أراد بهذا النهي أن يقضي على الشرك الذي كان موجودًا بعبادة الأصنام؛ ذلك لأن الناس كانوا حدثاء عهد بالإسلام ، والإيمان لم يستقر بعد في قلوبهم ، وكذلك أمر النبي ﷺ بتسوية القبور وعدم البناء عليها لهذه العلة، لكن بعد استقرار الإيمان وثبوت التوحيد في نفوس الناس، انتفت العلة وهي وجود الشرك وعبادة الأصنام وعدم استقرار الإيمان، فلما انتفت العلة، انتفى الحكم وهو «هدم القبور» أو «النهي عن البناء عليها».
(٢)- قد ثبت في القرآن الكريم جواز بناء المساجد على القبور ،كما جاء في «قصة أصحاب الكهف»، في قوله تعالى:{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنَّ عليهم مسجدً}،وقد أقر الله تعالى المؤمنين على إتخاذهم المسجد على أهل الكهف ، وقد أشعر السياق بمدح ذلك الأمر، فلو كان الأمر محرمًا لبينه الله تعالى، وظاهر الآية الكريمة يدل على أنَّ الذين«غلبوا على أمرهم» هم المؤمنون على الصحيح الراجح كما «قال المفسرون»؛لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون، وأما الكافرون فقالوا :«ابنوا عليهم بنيانًا»، فلعنة الله التعصب الذي يجعل صاحبه يلوي عنق الآية، ويجعل الذين بنوا المسجد على أهل الكهف مشركين طغاة .
(٣)- قد ثبت في السنة المطهرة أن رسول الله ﷺ وضع صخرة عظيمة على قبر عثمان بن مظعون وقال:«هذه أعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي».
(٤)ـ عندما فهم علماء الأمة الإسلامية توجيه هذه الأحاديث ،لم يقل أحد منهم بهدم هذه الأبنية التي بُنيت في السبعمائة عام الأولى من تاريخ الإسلام، سواء أكانت على قبور الصحابة ،أم على قبور التابعين، أو الخلفاء، أو الأمراء، أو الملوك، أوالأولياء الصالحين .
هذا هو فهم علماء الأمة قاطبة حتى القرن السابع الهجري، إلى أن جاء الشيخ ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ ومن سار على طريقته، بفهم جديد لمضمون هذه الأحاديث ، خالفوا به جماهير العلماء من السلف والخلف، ومن الأمور الخطيرة أن تقوم أنت ومن على شاكلتك الآن بجعل فهم الشيخ ابن تيمية ومن سار على طريقته هو الفهم الصحيح، بل الأخطر من ذلك أنكم يجعلون فهمه فرض عين على كل مسلم ؛ لأنكم لاتعترفون بكلام أحد غيره ، وهذا خطأ عظيم ؛لأن دين الله ملك لأهل القبلة جميعًا ،فانتبه لأنك تخالف جماهير المسلمين وتتبع من شذَّ عنهم، والأمة المحمدية معصومة من أن تجتمع على ضلالة كما أخبر الصادق المصدوق_ ﷺ_ .
#الوقفة_الثالثة
قلتُ له : ماهي أدلتك على حرمة الصلاة بالمسجد الملحق به ضريح ؟
فقال لي : أدلتي كثيرة، ومن أهمها :
(١)- قول النبي ﷺ :«لاتصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر».
(٢)- وقوله_ﷺ_: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
(٣)- اعتراض الإمام سعيد بن المسيب على إدخال حجرة أم المؤمنين عائشة في المسجد بعد توسعته في عهد الوليد بن عبد الملك ؛ لأنه خشي أن يُتخذ القبر مسجداً.
فقلت له : أرجو أن يستع صدرك لي حتى أوضح لك بطلان ماذهبتَ إليه، وإليك البيان:
(١)- النهي في قول النبي ﷺ :«لاتصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر»،كان لمن لم يطمئن قلبه بالإيمان؛ لحداثة عهده بالإسلام ، فكان النبي ﷺ يخشى عليه نزعة الشرك فيسجد للقبر نفسه أو للمقبور فيه، لا لله عز وجل، أما الآن فقد ذهبت هذه العلة وذهب الحكم معها ،وبفضل لله تعالى بعد خمسة عشر قرنًا من عمر الإسلام ،فلم يعبد مسلم حجراً، أو أشرك مسلم بربه وثنًا ،ولا سجد لغير الله من قبر أو مقبور ،فتأمل ما أقول، وفي الكلام تفصيل يطول شرحه، لكن في هذا القدر كفاية.
(٢)- قول النبي ﷺ:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يراد به السجود للقبر نفسه ،أو المقبور الذي بداخله، سجود عبادة من دون الله .
فإذا أردت أن تفهم هذا الحديث لابد أن تفهمه على ضوء اللغة العربية، فبها نزل القرآن الكريم ، وبها نطق سيد المرسلين ﷺ ، فسوف أشرح لك مفردات الحديث حتى تفهم المعنى المراد منه ، لا معنى آخر ليس هو المراد .
فقوله ﷺ:«لعن الله»، اللعن في الشريعة الإسلامية لايكون إلا على كبيرة من الكبائر، فما هي الكبيرة التي ارتكبها اليهود والنصارى حتى وجب عليهم اللعن من الله؟
الإجابة على هذا «السؤال» تكون من خلال فهمنا لقوله ﷺ :«اتخذوا»،حيث إن الفعل الماضي «اتخذا» يفيد التحويل والتصير، فأقول :«اتخذ محمد من الخشب كرسي»،أي: قام محمد بتحويل الخشب من مادة خام إلى كرسي يُجلس عليه ، فاليهود والنصارى قاموا بتحويل القبر أو ما في داخل القبر إلى مسجدٍ يسجدون له من دون الله؛ ذلك لأن «المسجد» في اللغة يُطلق على مكان السجود، وعلى زمان السجود، وعلى الحدث وهو السجود نفسه، والمراد هنا هو «مكان السجود».
والخلاصة: أن الله تعالى لعن اليهود والنصارى؛ لأنهم قاموا بتحويل قبور أنبياهم إلى مساجد يسجدون لها من دون الله تعالى، والحمد لله لم يسجد مسلم لغير الله تعالى ، فانتبه لهذا الأمر .
(٣)- أما اعتراض الإمام «سعيد بن المسيب» على إدخال حجرة أم المؤمنين عائشة في المسجد بعد توسعته في عهد الوليد بن عبد الملك؛ لأنه خشي أن يُتخذ القبر مسجداً، فهذا كلام باطل ؛ لأن فقهاء المدينة السبعة قد اتفقوا على توسعة المسجد وإدخال حجرات أمهات المسلمين فيه، وبالفعل لم يعترض إلا الإمام «سعيد بن المسيب»، لكن لم يكن اعتراضه كما قلتَ أنه يخشى أن يُتخذ القبر مسجداً، أو لحرمة الصلاة في المساجد التي بها أضرحة ،بل اعترض لأنه يريد أن تبقى حجرات النبي ﷺ كما هي يَطلعُ عليها المسلمون ؛حتى يعلموا كيف كان يعيش النبي ﷺ.
#الوقفة_الرابعة
في نهاية الحوار سوف أذكر لك أدلة مشروعية صحة الصلاة بمسجد ملحق به ضريح ، من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة ،وفعل الصحابة، وإجماع الأمة العملي، لكي يعرف القارئ من المُتبع ومن المُبتدع.
(١)- القرآن الكريم :
قال تعالى :«فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً، وذكرتُ لك سابقاً أن اتخاذ المسجد على أهل الكهف كان قول أهل الإيمان .
(٢)- السنة النبوية المطهرة :
- جاء في قصة أبي بصير الثقفي وأبي جندل ابن سهل، أنه لما مات أبو بصير بـ«شاطئ البحر»دفنه أبو جندل ومن معه من الصحابة هناك، وبنوا على قبره مسجداً، فكان أول مسجد بُني على قبر في الإسلام ،وكان هذا في عهد النبي ﷺ،ولم يأتِ أن النبي ﷺ أو أحد الصحابة أنكر هذا الفعل .
(٣)- فعل الصحابة :
لما انتقل النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى اختلف الصحابة في مكان دفنه ،فقال بعض الصحابة : يُدفن عند المنبر ، وقال آخرون : يُدفن بالبقيع،فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:«مادفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه »، ووجه الاستدلال هو أن أصحاب النبي ﷺ اقترحوا أن يدفن ﷺ عند المنبر ، والمنبر داخل المسجد قطعًا ،فلو كان ذلك حرامًا أو مخالفًا للعقيدة لما سكت عليه كبار الصحابة فضلاً عن غيرهم ، واعتراض سيدنا «أبو بكر الصديق» ليس لحرمة دفنه في المسجد ، وإنما كان اعتراضه ليقوم بتنفيذ أمر النبي ﷺ بأن يدفن في المكان الذي تُوفي فيه .
(٤)- إجماع الأمة العملي :
أجمعت الأمة الإسلامية على جواز بناء المساجد على القبور ، وجواز الصلاة بداخل تلك المساجد، والحضارة الإسلامية على مر العصور وقر الدهور ، خير شاهد على هذا الإجماع ، فانتبه لهذه الأدلة وافهمها، وإياك ثم إياك من سب المسلمين ورميهم بالشرك والكفر.
بقلم: مصطفى رضا الأزهري