يجيب عليها : أ.د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق
تنقسم الإجابة على هذا السؤال إلى قسمين؛ القسم الأول : حكم زيارة قبور الصالحين وعموم المسلمين، وقبر النبي صلي الله عليه وسلم. والقسم الثاني : حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم ، وقبور الصالحين.
أولا : حكم زيارة قبور المسلمين وقبر النبي صلي الله عليه وسلم :
زيارة القبور مشروعة باتفاق الأمة؛ فهي مستحبة للرجال باتفاق كافة العلماء، وكذلك مستحبة للنساء عند الأحناف، وجائزة عند الجمهور ولكن مع الكراهة وذلك لرقة قلوبهن وعدم قدرتهن على الصبر, ودليل الاستحباب قوله صلي الله عليه وسلم : «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها , فإنها تذكر بالآخرة»([1]) , ويستثنى من كراهة زيارة القبور للنساء عند الجمهور زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم, فإنه يندب لهن زيارته, وكذا قبور الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام؛ لعموم الأدلة في طلب زيارته صلي الله عليه وسلم.
أما زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم فلا يخفى على عاقل من المسلمين قيمة زيارة النبي صلي الله عليه وسلم ، وكيف لو كان سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم لم ينتقل إلى ربه وكان بين أظهرنا الآن، فهل سوف ينتقل إليه ويزوره صلي الله عليه وسلم ؟ فبالتأكد أنه لن يتردد في زيارته صلي الله عليه وسلم ، وزيارة النبي صلي الله عليه وسلم بعد وفاته تتحقق بزيارة قبره الشريف صلي الله عليه وسلم.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية سلفًا وخلفًا على مشروعية زيارة النبي صلي الله عليه وسلم ، فذهب جمهور العلماء من أهل الفتوى في المذاهب إلى أنها سنة مستحبة, وقالت طائفة من المحققين : هي سنة مؤكدة, تقرب من درجة الواجبات, وهو المفتى به عند طائفة من الحنفية. وذهب الفقيه المالكي أبو عمران موسى بن عيسى الفاسي إلى أنها واجبة.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾([2]). آية مطلقة ليس لها مقيد نصي ولا عقلي، فليس هناك ما يقيد معناها بحياة النبي صلي الله عليه وسلم الدنيوية، فهي باقية إلى يوم القيامة، فالعبرة بالقرآن دائمًا بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب، وكذلك قوله صلي الله عليه وسلم : «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي»([3]). ومنها قوله صلي الله عليه وسلم في الحديث :«من زار قبري وجبت له شفاعتي»([4]).
وهناك آداب عديدة يجب التحلي بها في حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم عند زيارة قبره، منها : خفض الصوت، والوقوف بوقار وخشوع، واستحضار صورة رسول الله صلي الله عليه وسلم وهيبته، وعدم الاجتراء على قبره الشريف بالتمسح والطواف ونحوه، ولا بأس بالتمسح بمنبره الشريف كما نقل عن أحمد رضي الله عنه حيث قال ابن قدامه المقدسي ما نصه : «ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلي الله عليه وسلم ولا تقبيله , قال أحمد : ما أعرف هذا. قال الأثرم : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي صلي الله عليه وسلم يقومون من ناحية فيسلمون. قال أبو عبد الله : وهكذا كان ابن عمر يفعل. قال : أما المنبر فقد جاء فيه. يعني ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ, أنه نظر إلى ابن عمر, وهو يضع يده على مقعد النبي صلي الله عليه وسلم من المنبر ثم يضعها على وجهه»([5]).
ثانيا : حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم والقبور عموماً :
وشد الرحال كناية عن السفر والانتقال، والسفر في نفسه ليس عبادة ولا عملًا مقصودًا لذاته في أداء العبادات، ويلزم القائل بأن شد الرحال لزيارة القبور وزيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون حكم استحباب زيارة القبور وزيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم خاصًا بأهل البلد الذي فيه القبر، فيكون أهل المدينة وحدهم هم الذين يجوز لهم الخروج من بيتهم يقصدون زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم ، وأن أي إنسان آخر يحتاج إلى السفر ليفعل نفس الفعل يكون آثمًا وهذا بعيد جدًا، بل هو غلط ووهم.
فإن علماء الأصول اتفقوا على أن الوسائل لها حكم المقاصد، فإذا كان الحج واجبًا، فشد الرحال للحج واجب، وإن كانت زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم والصالحين، والأقارب وعموم المسلمين مستحبة، فيتعين أن يكون شد الرحال لزيارتهم مستحبة، وإلا فكيف يستحب الفعل وتحرم وسيلته ؟
وقد ذهب العلماء إلى أنه يجوز شد الرحال لزيارة القبور؛ لعموم الأدلة, وخصوصا قبور الأنبياء والصالحين. أما قوله صلي الله عليه وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا, والمسجد الحرام, والمسجد الأقصى»([6]), خاص بالمساجد , فلا تشد الرحال إلا لثلاثة منها. بدليل جواز شد الرحال لطلب العلم وللتجارة.
وقد اتفق العلماء في هذا الفهم وننقل قول الشيخ سليمان بن منصور المشهور (بالجمل): « (لا تشد الرحال( أي للصلاة فيها فلا ينافي شد الرحال لغيرها... إلى أن قال: قال النووي: ومعناه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غير هذه الثلاثة، ونقله عن جمهور العلماء. وقال العراقي : من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط؛ فإنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد من الرحلة لطلب العلم وزيارة الصالحين, والإخوان, والتجارة والتنزه ونحو ذلك فليس داخلًا فيه.
وقد ورد ذلك مصرحا به في رواية الإمام أحمد، وابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا : «لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» وفي رواية : «لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها» ... إلخ قال السبكي : وليس في الأرض بقعة فيها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة. قال : ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكمًا شرعيًا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها، بل لزيارة، أو علم، أو نحو ذلك من المندوبات، أو المباحات، وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة كسيدي أحمد البدوي ونحوه داخل في المنع وهو خطأ; لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه ، فمعنى الحديث لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد، أو إلى مكان من الأمكنة؛ لأجل ذلك المكان، إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال لزيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل لمن في المكان فليفهم ا هـ . برماوي»([7]).
وعليه فإن شد الرحال لزيارة قبر النبى صلي الله عليه وسلم مستحب؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لتحصيل المستحب وهو الزيارة، وكذلك شد الرحال لزيارة قبور الصالحين والأقارب مستحب؛ لأنه وسيلته، وشد الرحال للأمور المباحة مباح، والله تعالى أعلى وأعلم.
([1]) أخرجه أحمد في المسند، ج1 ص 145، ومسلم في صحيحه، ج2 ص 672، 1563، وأبو داود في سننه ج 3 ص 333، والترمذي في سننه ، ج3 ص 370، ، والنسائي في سننه، ج4 ص 89، وابن ماجه في سننه، ج 1 ص 501.