هل قول الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)(1) باق إلى يوم القيامة أو أنه انتهى بانتقال النبي صلي الله عليه وسلم من الحياة الدنيا ؟
يجيب عليها : أ.د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق
إن الآية التي أنزلها الله على نبيه صلي الله عليه وسلم في سورة النساء: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظُلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) (1). آية مطلقة ليس لها مقيد نصي ولا عقلي، فليس هناك ما يقيد معناها بحياة النبي صلي الله عليه وسلم الدنيوية، فهي باقية إلى يوم القيامة، فالعبرة في القرآن غالبا بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب، ومن زعم تخصيص تلك الآية بحياته صلي الله عليه وسلم أو تخصيصها به فعليه أن يأتي بالدليل، فالإطلاق لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه الأصل والتقييد هو الذي يحتاج للدليل .
وهذا ما فهمه المفسرون، بل أكثر المفسرين التزاما بالأثر كالحافظ ابن كثير رحمه الله، فقد ذكر الآية وعقب عليها بقوله: (وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو النصر الصباغ في كتابه الشامل هذه القصة المشهورة عن العتبي قال: (كنت جالسا عند روضة النبي ﷺ فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، ثم أخذ يقول:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظمُهُ *** فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأَكَـمُ
نفسي الفداء لِقَبْرِ أَنتَ سَاكِتُهُ *** فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالْكَرَمُ
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلي الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له(2) ، وروى القصة كذلك البيهقي (3).
وهذا لا يعني أننا نستدل بالرؤيا، ولكننا نستدل بعدم اعتراض الإمام ابن كثير على القصة التي ساقها في تعرضه لتفسير تلك الآية، وما ذكره من إقرار العتبي للأعرابي في فعله وعدم الإنكار عليه بطلب الاستغفار من النبي صلي الله عليه وسلم بعد انتقاله الشريف صلي الله عليه وسلم.
وقد استدل بتلك الآية أغلب الفقهاء على استحباب زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم، كما استحبوا قراءتها أثناء زيارة روضته الشريفة صلي الله عليه وسلم، فذهب الحنفية إلى استحباب قراءة الآية عند قبره الشريف؛ ففي الفتاوى الهندية في آداب زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم ما نصه: (ثم يقف عند رأسه صلي الله عليه وسلم كالأول ويقول: اللهم إنك قلت وقولك الحق (ولو أنهم إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ)(4) .
ومن مذهب المالكية يقول ابن الحاج العبدري: (فتوسل به - عليه الصلاة والسلام - فهو محل أحمال الأوزار، وأثقال الذنوب والخطايا لأن بركة شفاعته -عليه الصلاة والسلام- وعظمتها عند ربه لا يتعظمها ذنب، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه - عليه الصلاة والسلام- من لم يزره، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك آمين يا رب العالمين.
ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم، ألم يسمع قول الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جاءوكَ فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيما)(5)، فمن جاءه ووقف ببابه و توسل به وجد الله توابا رحيما؛ لأن الله عز وجل منزه عن خلف الميعاد، وقد وعد بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الحرمان)(6).
وقال إمام الشافعية الإمام النووي في بيانه لآداب زيارة النبي ﷺ: ( ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله ﷺ ويتوسل به في حق نفسه، ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالي، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب، وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال: كنت جالسا عند قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)(7) وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ..)(8) ثم ذكر القصة التي أوردها ابن كثير .
وفي مذهب الحنابلة يرشد الإمام ابن قدامة إلى تلاوة تلك الآية ومخاطبة النبي صلي الله عليه وسلم بها وطلب الاستغفار منه صلي الله عليه وسلم في آداب زيارة قبره الشريف؛ حيث قال ما نصه: (ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة، وتستقبل وسطه، وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله، وخيرته من خلقه وعباده، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أن أتاك اليقين، فصلى الله عليك كثيرا، كما يحب ربنا ويرضى، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفِرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ توابا رحيما)، وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وأنجح السائلين، وأكرم الآخرين والأولين، برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم يدعو لوالديه ولإخوانه وللمسلمين أجمعين)(9) .
وصرح العلامة الرحيباني من الحنابلة باستحباب قراءة الآية عند قبره الشريف أثناء الزيارة حيث قال في إرشاده لخير ما يقال أثناء الزيارة ما نصه: (اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق: (وَلَوْ أَنهم إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)(10)، وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعًا بك إلى ربي، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أو جبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وأنجح السائلين، وأكرم الأولين والآخرين برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم يدعو لوالديه وإخوانه وللمسلمين أجمعين)(11).
مما سبق تعلم أن جميع المذاهب يستحبون قراءة تلك الآية عند الروضة الشريفة، ويعتقدون أنها باقية، وهو ما عليه أمة الإسلام سلفا وخلفا، ولا عبرة لمن شد منها عن ذلك الفهم، فاستغفار النبي صلي الله عليه وسلم بعد وفاته لا يمنعه عقل ولا نقل، وقد صح أن النبي ﷺ قال: (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرِّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ)(12)، والله تعالى أعلى وأعلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء، آية: [٦٤]
(2) تفسیر ابن كثير: ج ١ ص ٥٢١.
(3) شعب الإيمان: ج ٣ ص ٤٩٦.
(٤) الفتاوى الهندية، لجنة برئاسة نظام الدين بلخي: ج ١ ص ٢٦٦.
(5) سورة النساء، آية: (٦٤).
(6) المدخل، لابن الحاج: ج ١ ص ٢٦٠.
(7) سورة النساء، آية : [64].
(8) المجموع، للإمام النووي : ج ٨ ص ٢٥٦.
(9) المغني، لابن قدامة: ج ۳ ص ۲۹۸.
(10) سورة النساء، آية : (٦٤).
(11) مطالب أولي النهي، للرحيباني : ج ٢ ص ٤٤١.
(12) أخرجه البزار في مسنده كشف الأستار : ج ۱ ص ۳۷۹، وأخرجه الحارث في مسند الحارث بزوائد الهيثمي : ج ٢ ص ٨٨٤، وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس : ج ۲ ص ۱۳۷ ، وذكره أبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائد: ج ٩ ص ٢٤ وعليه بقوله: (ورجاله رجال الصحيح) ، وقال عنه الحافظ العراقي في طرح التثريب: ج ۳ ص ۲۹۷: (إسناده جيد)، وصححه الحافظ المناوي في فيض القدير : ج ٣ ص ٤٠١، وتعجب ممن زعم أنه مرسل، وقد صححه جمع غفير من الحفاظ منهم: النووي، وابن التن، والقرطبي، والقاضي عياض، والحافظ ابن حجر.