قال بعض الحكماء: الأنس بالله جل ثناؤه أرق وأعذب من الشوق؛ لأن المشتاق كان بينه وبين الله تعالى مسافة خفيفة لعلة شوقه، والمستأنس أقرب من الله عز وجل([1]).
وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه جبريل عليه السلام في صورة رجل، فسأله عن الإسلام والإيمان، ثم سأله عن الإحسان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، فقال له صدقت!».
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر رضى الله عنه: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»([2]).
وإنما دله على قرب الله عز وجل، وقيامه عليه، ومن قرب الله تعالى؛ تستخرج حقائق الأمور في كل مقام.
فمن كان مقامه الخوف، أدركه من قرب الله تعالى -حين علم أنه يراه- الحذر، والفرق([3])، والخشية([4]).
ومن كان مقامه المحبة، أدركه من حقائق قرب الله تعالى حين علم أنه يراه الفرح والسرور والنعيم والمسارعة في طلب رضاه والقربة ليراه منافسًا راغبًا، يريد القربة إليه، والمبالغة في محبته.
والصابر في وقت بلواه ومصيبته وما يتحمله لسيده مما يقربه من ثوابه، حين سمع الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾([5]).
سهل عليه عند ذلك معالجة الصبر واحتمال مؤنته.
وكذلك أهل كل مقام عبدوا الله تعالى على القربة، وذلك حين أيقنوا وهم الذين لا يكادون يصلون ولا يرجعون.
وأما العامة من الناس فإنهم عملوا على ما انتهى إليه من الأمر والنهي، على رجاء ضعيف فخلطوا ولم يحققوا!.
فمن صدق الأنس ما يروى عن عروة بن الزبير رحمة الله عليه، أنه خطب إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ابنته؛ وهو يطوف ببيت الله الحرام، فلم يجبه ابن عمر، ولم يرد عليه جوابًا، ثم لقيه عبد الله بعد ذلك، فقال له: إنك كلمتني في الطواف ونحن نتخيل الله بين أعيننا.
فالمستأنس كأنه ينظر إلى ما اشتاق إليه الله تعالى؟
ويروى عن عبد الواحد بن زيد البصري رحمه الله تعالى، أنه قال لأبي عاصم الشامي رضى الله عنه ورحمه: أما تشتاق إلى الله تعالى؟!
قال: لا، إنما تشتاق إلى غائب، فإذا كان الغائب شاهدًا فإلى من تشتاق؟! فقال عبدالواحد: سقط الشوق.
وروي عن داود الطائي رحمه الله تعالى -وكان من المسلمين الذين أجمعوا على صدقه وعدالته- قال أيضًا: إنما تشتاق الغائب.
قال بعض العلماء رحمهم الله، وإنما قالوا: هذا من حقائق الوجود لقرب الله عز وجل كأنهم معه؛ إذ كان معهم شاهدًا لايغيب، وذلك من الله تعالى تسكين وتطمين، ورحمة وراحة، عجلها لهم في الدنيا، وإلا فما الذي وصل إليهم من الله عز وجل من قربه؟!
فمن علامة المستأنس بالله تعالى، وبقربه أن يكون واجدًا([6]) لذكر الله عز وجل في قلبه، واجدًا لقربه منه لايفقده على كل حال، وفي كل وقت وكل موطن([7])، ويكون الله عز وجل وقربه السابق إليه قبل الأشياء، وذلك إذا سكن قلبه نور قرب الله تعالى منه، فبه ينظر إلى الأشياء، وبه يستدل على الأشياء([8]).
وهكذا يروى عن عامر بن عبد الله رضى الله عنه، أنه قال: ما نظرت إلى شيء قط إلا كان الله تعالى أقرب إليَّ منه.
ومن صفات المستأنس: أن يكون متبرمًا بالأهل والخليقة كلهم، مستعذبًا([9]) للخلوة والوحدة، ويكون في البيت المظلم متبرمًا بالمصباح إذا رآه؛ بل يجيف بابه([10]) ويسبل ستره ويواحد قلبه، ويألف مليكه، فيكون به أنيسًا، وبمناجاته متنعمًا، ويكون متفرغًا من طارق يطرقه ينغص عليه خلوته، ثم تراه مستوحشًا من ضوء الشمس إذا دخل عليه في صلاته، ويتثاقل تلقاء([11]) الخلق ويملهم، ويكون لقاؤهم ومجالستهم عليه غرامًا([12]) وخسارًا، فإذا جنه الليل([13])، ونامت العيون وهدأت الحركات، وسكنت حواس الأشياء([14])، خلا عند ذلك بينه([15])، فهاج جوه([16])، وتصاعدت أنفاسه، وطال أنينه، وتنجز الموعود من مأموله، وما قد غذاه من فوائده وألطافه، فظفر عند ذلك ببعض سؤاله، وقضى بعض أوطاره([17])
وكذلك المستأنس، تذهب عنه الوحشة في المواطن التي يفزع فيها الناس، فيستوي عنده العمران والخراب والقفار([18])، والجماعة والوحدة، وذلك الذي استولى عليه من قرب الله عز وجل، وعذوبة ذكره، ويغلب ما سواه من العوارض الظاهرة والباطنة.
فهذا ظاهر الأنس الذي يمكن أن يذكره، وما بقي من مقامات الأنس أكثر وأعز من أن يكون في كتاب، إلا أن يجري منه شيء عند المذاكرة مع أهله.
وبالله التوفيق.
([1]) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مظنة القرب فقال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم».
([4]) الخشية الخوف عن علم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ فاطر: 28.