الباب الثالث عشر : نقابة الأشراف والعمامة الخضراء
* أولًا: نقابة الأشراف وتاريخها.
* ثانيًا: العمامة الخضراء.
* ثالثًا: الشرف المزور والشرف الصحيح.
أولًا: نقابة الأشراف وتاريخها
كانت (نقابة الأشراف) في مصر من أرفع الرُّتَبِ الروحية، منذ العهد الفاطمي، وكان نقيب الأشراف هو الخليفة والسلطان، وكان للأشراف أوقاف بمصر واسعة مترامية متزايدة على مَرِّ العصور، وكان أكثرها في حكم المماليك والأتراك، وكان لنقيب الأشراف صَوْلَةٌ ومقام يلي مشيخة الإسلام، مساويًا لــ «شيخ المشايخ الصوفية»، الذي قد يجمع في بعض الأحيان بين النقابة والمشيخة، وكان للأشراف مكانة كبرى عند الجماهير، قد لا تدانيها مكانة أخرى على الإطلاق، وكان للنقيب نواب عنه في المدائن والقرى.
وقد اشتهر من نقباء الأشراف في العهد الأخير (السيد عمر مكرم)، وبعده جمع الشيخ (توفيق البكري) -في فترة ما- بين النقابة والمشيخة، ثم انتقلت النقابة إلى بيت (الببلاوي)، حتى أُلغيت النقابة بعد ثورة (23 يوليو)، فيما ألغي للتسوية والتقريب بين الطبقات، ولأن النسب من حيث هو لا يغني عند الله شيئًا؛ فالقانون الإلهي: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، سواء في ذلك الأشراف والأطراف، وإن كان لصالحي أهل البيت المقام الأوفى في الكتاب والسُّنَّة، كما قدمنا في أول هذا الكتاب.
وقد حاول رجال إعادة النقابة رسميًّا، فلم يُستَجَبْ لهم، فأقام بعضهم نفسه نقيبًا بمصر، وجعل يمارس ما استطاع من عمل النقابة في بعض أحياء القاهرة، وجعل له وكلاء في الوجه البحري والقبلي، حيث كانت تباع (النسبة) للأشراف بأي ثمن مادي، فلم يبقَ للأشراف وزنهم القديم، ولعله كان لو اجتمعت البيوت الشريفة الكبرى، ووضع رجالها قانونًا إيجابيًّا لمصلحة الأشراف، وخدمة الوطن والإسلام، ممثلًا في أعمال ثقافية واجتماعية، وإنسانية وتعاونية وغيرها، ضمن التقاليد الموروثة، ثم شكلوا هيئة من الشخصيات الطيبة للعمل تحت مظلة القانون، فربما كان هذا مدخلًا لإعادة تجميع الشمل على أهداف كريمة، يُرجى بعدها إعادة مجد النقابة، والاعتراف الرسمي بها مرة أخرى، على أساس عملي قانوني رشيد.
ولكن الله أراد أن تعود الدولة إلى الاعتراف بـ (نقابة الأشراف)، لسبب أو لآخر، فعينت السيد الشريف المرحوم (محمود كامل يسٓ) نقيبًا للأشراف، حتى إذا توفي رحمه الله عينت أخاه السيد (أحمد كامل يسٓ) نقيبًا، ونرجو أن يحقق الله على يديه ما يرتقي بشرف (نقابة الأشراف)، ويهيئها لخدمة الإسلام والمسلمين، وبخاصة البيت النبوي.
ثانيًا: العمامة الخضراء
لم يكن من شأن الأشراف منذ عهد النبوة الامتيازُ بشعار معين، أو لباس خاص؛ اكتفاءً في الدلالة عليهم بالعمل الصالح، والدعوة إلى الله، وتمثيلهم لمكارم الأخلاق، وتمسكهم بالتعارف والتعاون والعمل والإنتاج.
حتى كانت أيام السلطان شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، فأراد أن يوسع نطاق شعبيته، وأن يحيط نفسه بتجمع جماهيري فاضل، فلم يجد إلا أن يتقرب إلى الأشراف، ويتحبب عن طريقهم إلى الناس، فخصهم بما زعم أنه يرضيهم، ومن ذلك أنه خصهم بلُبْسِ العَمامة الخضراء([1])، والاهتمام بتسجيل الأنساب... إلخ؛ ليكون لهم ميزة وخصيصة.
ويقول الشيخ العدوي في كتابه «مشارق الأنوار» ما ملخصه:
إنَّ العلماء في وقتها اعتبروا هذه العمامة بدعة كريهة؛ لما فيها من الإشعار بالفخر والفضل، الأمر الذي يجر إلى الرياء والسمعة والخيلاء، والشرك الخفي وحبوط العمل، مما يجب أن يترفع عنه الشريف الصادق؛ ولذلك قال الشاعر:
جعلوا لأبناء النبي علامة |
* | إن العلامة شأن من لم يُشْهر |
نور النبوة في وضيء وجوههم |
* | يغني الشريف عن الطراز الأخضر |
أمَّا نحن فمع هذا نقول عن العمامة الخضراء: إنْ لَبِسَهَا الناس على أنها عادة مجردة من المكاره الشرعية؛ فالمرجوُّ ألا ينسحب عليها حكم البدعة الممنوعة، من باب التيسير، وإلا فتركها أحوط وأحكم وأقوم وأكرم، أمَّا إذا لبسها للتعالي والتباهي ونحو ذلك؛ فيمتنع لبسها أو يحرم.
ثالثًا: الشرف المزور والشرف الصحيح
مصر من الأقطار التي تزخر بالأشراف الموصولة أنسابهم حقيقة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عدد كبير من أصحاب الأضرحة الشهيرة، ثم من العائلات الكريمة، والرجال الأكابر، والسادة الأماثل، سواء بالقاهرة أو الأقاليم (قبلي وبحري).
ويوشك أن يكون كل مشايخ الطرق الصوفية، وكبار أئمتها ومؤسسيها -القدامى والمحدثين- من النسل النبوي الشريف، ولله الحمد!.
ولهذا، فإننا نسأل الله تعالى التوفيق إلى إخراج الجزء الثاني من هذا الكتاب شاملًا التعريف بأولياء أهل البيت في خارج القاهرة، ومشيرًا إلى الأسر والشخصيات الشريفة في مختَلِفِ المحافظات المصرية من الأحياء والمنتقلين إلى الرفيق الأعلى.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن عددًا من الناس استحدثوا لهم أنسابًا مزوَّرة من هنا وهناك؛ وإذن فليس كل حاملي وثائق أو قسائم النقابة أو (السراكي) هم من صحيح الأشراف، ولا كل من لم يهتم بذلك يكون من الأطراف، فكم من شريف أصيل بحق، لا اهتمام له بتلك المظهريات؛ لما يرى في مختلف أحوالها مما لا يرضي اللهَ ولا الرسول.
وفي الأثر: «لعن الله الداخل فينا بالزور من غير نسب، والخارج منَّا بالمعصية من غير سبب»، فكيف إذا كان السبب تِجَاريًّا أو نفسيًّا أو نحوه، وسركي النقابة لا يدخل صاحبه الجنة ولا يمنعه من النار، ولا يجلب له الغنى ولا يمنعه من الفقر.
إنَّ الشرف الحقيقي عند أهل القبلة هو التقوى والاعتصام بالكتاب والسنة قولًا وعملًا وحالًا([2])، وتَأَمَّلْ قولَه صلى الله عليه وسلم: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ»، والله تعالى يقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6]، فلم يذكر قربى ولا نسبًا جسديًّا، بل ذكر الإيمان، وفي القرآن الكريم: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون:101]، فالشريف الحق من وقف عند حدود الله، واعتصم بطاعة الله ورسوله، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم لأهل بيته: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا».
والخلاصة: إن هذا الفضل والشرف، إنَّما يكون لمن يعطي النسب حقه من الطاعة والاستقامة طوق الجهد، أمَّا من يسرف على نفسه، ويتابع شيطانه، ويعصي مولاه اعتمادًا على هذا النسب فلسوف لا ينفعه سببٌ ولا صهر ولا نسب، فهو عار في جبين أهل البيت، وهو من أهل حديث الصحيحين، حين صعد النبي صلى الله عليه وسلم (الصفا)، ونادى بطون قريش بطنًا بطنًا، فقال لهم:
«يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني مرة بن كعب،يا...، يا...»، إلى أن قال: «يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، أنقذي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئًا».
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أهله وأمرهم، فقال ما مجمله: «لا يأتي الناس يوم القيامة بالأعمال وتأتون بالأقوال، تنادون: يا محمداه! يا محمداه! فأشيح بوجهي هكذا وهكذا»([3]).
وهكذا فإنه لا يغني عند الله ورقة أو وثيقة ممهورة أو موقعة أو مختومة استخرجها من استخرجها من أية جهة، بطريق صحيح أو كاذب، على تصديق أو تلفيق، حقيقيًّا كان هذا أو باطلًا، فإن الشرف في التقوى والتنزه عن الهوى، فلا العمامة الخضراء، ولا الطراز اللافت للنظر، ولا الوظائف ولا الأموال والجاه، بالشيء الذي يجعل الإنسان أهلًا للنسبة العليا إلى (آل البيت)، والانتفاع بشفاعة جدهم صلى الله عليه وسلم، إنما النبي جد لكل تقي، وإن كان من كان.
فافهم وعلم الناس، وتذكر الحكمة العظيمة على لسان الحق عَزَّ وَجَلَّ: «الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدًا حبشيًّا، والنار لمن عصاني، ولو كان شريفًا قرشيًّا»!.
نرجو أن يكون هذا معلومًا تمامًا، وأن يكون معلومًا أن الموفق حقًّا، هو من جمع بين النسب والعمل معًا؛ فيكون حقًّا من (أهل البيت) رضي الله عنهم أحياءً وأمواتًا.
([1]) ومن قبل كان العباسيون قد اتخذوا السواد من اللباس والعمائم شعارًا لهم ودليلًا على دولتهم، فلعل تخصيص السلطان شعبان الأشراف باللباس الأخضر والعمامة الخضراء من هذا الباب... والله أعلم!.
([2]) لذلك يجب على الشريف أن يكون أهلًا للانتساب إلى سيد الخلق ص، في أقواله وأفعاله وأحواله، وإنما حب المسلمين لأهل البيت النبوي أن يأخذوا بأيديهم إلى ما فيه الخير، وقد ورد ما يفيد حرمة عمل (أهل البيت) في الحرف الدنية والأعمال المزرية، كما حرمت عليهم الصدقات، فيا ليت نقابة الأشراف وكبار أهل البيت في العالم الإسلامي يسعَوْنَ جاهدين لتعليم وتثقيف كل منتسب لأهل البيت، ورعايتهم دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، والنهوض بهم، خصوصًا بعد أن وصل الحال ببعض المنتسبين إلى أمور خطيرة، فوجدنا منهم من يقول بعدم وجوب الصلاة عليهم؛ لأن الناس تصلي عليهم في الصلاة، ومنهم للأسف من قبل الدنية، وسعى وراء الجاه والدنيا والشهرة... إلخ.
([3]) وفي الباب آثار كثيرة، منها: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»، و«إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ... لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عن فَخْرَهُمْ بِقَوْمٍ، أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ على اللهِ مِنْ الْجِعْلاَنِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ»، وفي الحديث عن رب العزة جل وعلا: «إني جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا، فقلت: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، فأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم».
وهذا كله لا يعني عدم أفضلية أهل البيت، وما لهم من حقوق على الأمة الإسلامية، وإنما يعني أن يكون من ينتسب لأهل البيت على مستوى هذا الانتساب، من: العلم والعمل والأخلاق، والتواضع والقدوة والقيادة والسيادة، والعمل للإسلام، ورضي الله عن أهل البيت أجمعين.