الباب السادس : السكينات الكريمات
* أولًا: السيدة سكينة الكـبـرى بنت الإمــام الحسيـن.
* ثانيًا: السيدة سكينة الصغـرى وسَمِيَّاتِهَا.
أولًا: السيدة سكينة الكبرى بنت الإمام الحسين
السيدة سكينة بنت الإمام الحسين رضى الله عنه، واسمها الأصلي (آمنة)، أمها (الرَّبَاب) بنت امرئ القيس الكِنْدِيِّ ملك (بني كلب)، ولدت عام 47هـ، وهي أول من دخل مصر من أبناء الإمام علي رضى الله عنه، كما نقله جماعة، منهم: ابن الزيات، وابن زولاق مؤرِّخ مصر (المحقق في القرن الرابع)، وينطق اسمها المشهور [بضم السين وفتح الكاف] تصغيرًا على وزن (بُثَينَة)، وقد أخذ اسم (سُكَينة) من الهدوء والأمن والاستقرار والرضا، وقد جمعت في دمها بين آثار النبوة من أبيها الحسين، وبين جلال الملوكية العربية من أمها الرباب.
سبب دخولها مصر:
وكان سبب دخولها مصر، أن خطبها الأصْبَغ بن عبد العزيز بن مروان أمير مصر، كما ذكره (ابن خَلِّكَانَ)، وكانت قد عادت من الحجاز الذي ذهبت إليه بعدما أدخلت مصر مع عمتها السيدة زينب، وكان من سياسة الأمويين بعد مقتل الحسين محاولة التخفيف من وقع الحادث عند الناس، بالتقرب إلى أهل البيت بالزواج منهم، وإسناد بعض الإمارات والمناصب إلى من يأمنونه من أهل البيت.
وبينما سكينة في طريقها إلى مصر، إذ بلغها شناعة بغي الأصبغ وجوره وفجوره، فأقسمت ألَّا تكون له زوجة أبدًا، واستجاب الله لها، فما إن وصلت منية الأصبغ في مصر حتى كان قد مات الأصبغ قبل أن يراها، وكانت قبل ذلك قد تزوجت بابن عمها عبد الله بن الحسن بن عليٍّ رضى الله عنه.
وهكذا انتقلت من (منية الأصبغ) إلى دارها التي بقيت بها إلى أن ماتت، ثم أصبحت هذه الدار لها مشهدًا ومسجدًا إلى اليوم، وقد جَدَّدَهُ عبد الرحمن كَتْخُدَا، ثم جددته وزارة الأوقاف، قريبًا من مشهد السيدة نفيسة، ومشهد السيدة رقية بنت علي الرضا رضي الله عنها، وهذا هو الملاحظ في كثير من أهل البيت والسادة الأولياء؛ فإنهم كثيرًا ما تكون بيوتهم في حياتهم هي مدافنهم بعد مماتهم، ولله في ذلك حكمة!.
وقد جاء عن والدها، الإمام الحسين، قوله:
لعمرك إنني لأحب دارًا |
* | تكون بها سكينة والرباب |
أُحبهما وأنفق جُلَّ مالي |
* | وليس لعاتِبٍ عندي عتاب |
فقد كان رضى الله عنه يحبها، ويحب أمها الرَّبَابَ كل الحب؛ لِما كانتا عليه من جمال وكمال.
من دخل مصر بعد سُكَيْنة:
وكان أول من جاء مصر بعد سكينة عمتها نفيسة (الكبرى) بنت زيد الأبلج، بعد طلاقها من الخليفة الأموي، ثم جاءت من بعدها نفيسة (الصغرى) بنت الحسن الأنور، كما فَصَّلْنَا ذلك من قبل.
وبعد هذا تَتَابع دخول أهل البيت إلى مصر وإقامتهم بها؛ لِمَا وجدوا من أهلها من صدق الحب، ولبعدها عن مواطن الفتن والائتمار، ومشاكل الأمور السياسية، وقانا الله فتنتها.
دعاوى أهل الباطل:
ولقد ادَّعى الوضَّاعُونَ، وخصوم أهل البيت دعاوى على السيدة سكينة، يبرأ منها الحق إلى الله، كَادِّعَائِهِم شغفها بالغناء واللهو واختلاطها بالرجال، وإشاعتها عقصات الشعور، وغير ذلك مما قصد به محاولة الإساءة إلى أهل البيت، ثم نقله كثير من المؤلِّفِينَ بحسن النية أو سوئها، وشاع ذلك على بعض الألسن بدون وعي، وهو دخيل باطل فاسد مدسوس لئيم، لا ينبغي السكوت عليه من مسلم؛ لِمَا فيه من قصد التشهير ببيت النبوة والاحتيال للوصول إلى اغتماز شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي تجريح رسالته المقدسة، كيف والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33]، فهل نصدق الله أم نصدق الرواة الكاذبين، والرواة الذين يغلبُهم حسن النية أو التأويل والاعتذار؟!.
والذي لا شك فيه أنَّ سكينة النبوية كانت أديبة ذواقة ناقدة عالمة بدقائق اللغة وخصائص الدين، شأن نساء أهل البيت كلهم، وكانت ربما أجازت الشعراء والأدباء والعلماء وأجزلت لهم، واستضافتهم وشجعتهم، وذلك أمر مطلوب من أهل البيت عامة، ومن حُرَّاسِ التراثِ المحمدي لغة ودينًا بصفة خاصة، وكثير مما جاء من الأخبار من هذا الجانب صحيح ومشرف.
أمَّا ما زاد على ذلك من أخبار اللهو والغناء ونحوه؛ فمن دس الباطنية، ووضع النواصب الكذابين، ومن إفك حساد أهل البيت وخصوم الإسلام، وهو إفك يرويه فاسق عن فاسق، وكذاب عن كذاب، وحقود عن حقود؛ تأييدًا لسياسة اضطهاد أهل البيت، وبخاصة في العصر الأموي والعباسي مما لا شك فيه، والمتواتر في سيرتها أنه كان يغلب عليها الاستغراق في العبادة، كما نقله ابن الصَّبَّاغِ، ونسب بعض المؤرخين هذا القول إلى والدها الإمام الحسين رضى الله عنه.
من في الضريح ومن حوله:
وقد دُفِنَ في ضريح السيدة سكينة بنت الإمام الحسين بمصر عند باب المشهد، جماعة من السادة، منهم: الشريف حيدرة بن ناصر، من الفواطم السليمانية أبناء الإمام الحسين الأكبر من حفيده الحسين الأصغر، وكانوا بصنهاجة المغرب.
وكان الشريف حيدرة قد جاء مصر زائرًا فمات بها، وصلى عليه الخليفة العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي، ودفن في باب المشهد السكيني.
ودفن بباب المشهد كذلك الشريف النَّسَّابَةُ، المقيم حياته بالمشهد السكيني (السيد إبراهيم بن يحيى بن بللوه المشهدي)، ودفن معه ولده السيد حسن، وبنت ابنه السيد حسن، واسمها زينب، وهي التي أَشَرْنَا إلى ذكرها في الكلام عن الزينبات.
ثانيًا: سكينة الصغرى وسمياتها
أمَّا سكينة الصغرى، فهي: بنت علي زين العابدين بن الإمام الحسين، ولا خلاف بين المؤرخين في أنَّها دخلت مصر، وأنها ماتت بها بِكْرًا لم يدخل بها رجل.
وقد خلط بعضهم بينها وبين عمتها سكينة الكبرى بنت الحسين، ولكن الحق عندنا ما بَيَّنَّاه هنا بعد التحقيق التاريخي المؤيد بالتواتر، ثم بنُقُولِ أهل الحق من العارفين بالله، في مقامات الكشف والشهود.
وإذا صحَّ ما نقله بعضهم من أنَّه كان لسكينة الكبرى شقيقة سميت باسمها كعادة أهل البيت في تكرار التسمية بين الإخوة؛ فتكون قد انحلت المشكلة بافتراض أن سكينة الثانية هي دفينة الحجاز، وقد كانت صورة من شقيقتها، صورة وعلمًا ومعاملة، والله أعلم!.
أمَّا قبر سكينة الصغرى بنت زين العابدين التي نتحدث عنها، فهو عند مقبرة (الصدفيين)، وهم من السادة التابعين، وكانت لهم نحو أربعمئة قُبَّةٍ هناك، ومنهم بركة مصر وفخرها الإمام (يونس بن عبد الأعلى) شيخ البخاري ومسلم، والَّذِي كان نائبًا عن الإمام الليث في إدارة أمواله، وقبور الصدفيين بجوار قبر سكينة الصغرى قريبًا من مشهد الإمام الليث بن سعد رضى الله عنه، وهو معروف يُزَارُ ويتبرك به، ويخشى عليه من الإهمال والاندثار.
أمَّا سكينة المدفونة بالشام، فهي الأخت الكبرى لـ (سكينة بنت زين العابدين) دفينة مصر، وقد وَهِمَ في شأنها بعض مؤرخي المزارات، فخلط بينها وبين سَمِيَّتِهَا.
أمَّا سكينة المدفونة بالمدينة فهي الأخت الصغرى لـ (سكينة بنت الحسين)، وقد تزوجت جماعة معروفين، وماتت هناك وقبرها معروف، وهي التي حقد عليها الأمويون، فأجَّلُوا دفنها حتى يسوء ريحها، ولكن الله أكرمها؛ فأحْرَقَ الناس حول نعشها من العود والصندل، ما لم يُعرف لأحد في التاريخ (فاحفظ ذلك!).
أسباب اللبس في الأسماء:
قلنا: وإنما أحدث هذا اللبس ما تعوده أهل البيت رضى الله عنهم من تكرار الاسم الواحد في البيت الواحد مرتين وثَلاثَ مرات، من قبيل التَّبَرُّكِ والتَّيَمُّنِ، مع الاكتفاء في التمييز بلفظ الأكبر أو الكبرى، والأوسط أو الوسطى، والأصغر أو الصغرى، أو بالألقاب أحيانًا نحو: الصادق والأبلج والمحض والمؤتمن، أو بنحو قولهم: المثنى والمثلث... وهكذا، وقد مرت عليك الأمثلة فيما قدمنا، وستمر الأمثلة فيما يأتي رضي الله عنهم جميعًا.