مقدمة
«كل ما فاتك -من الله سوى الله- يسير، وكل حظ لك، سوى الله قليل».
بهذه الحكمة البالغة التى نطق بها أبو سعيد: نبتدئ الحديث عنه، ولا نبتدئ بهذه الحكمة اعتباطًا، ولكن لأنها محور تفكيره.
لم تخدعه زخارف الحياة الدنيا، ولم تلهه مفاتنها؛ فاختط لنفسه طريق الصدِّيقين، وسار على نهج أولياء الله رضي الله عنهم.
لقد ابتدأ -كما تبتدئ الصفوة المختارة- باحثًا منقبًا عن الله، فوجده ظاهرًا في آثاره: لقد وجده في النسمة العليلة، وفي الزهرة الندية، وفي النجم المتألق، وفي شعاع الشمس الذهبي، لقد وجده في الخير، وفي الجمال، وفي الجلال، فأحبه وهام به، وكانت حالته، كما يصف هو، فيقول:
«والمحب يتعلل إلى محبوبه بكل شي، ولا يتسلى عنه بشيء، ويتبع آثاره، ولا يدع استخباره».
وكثيرًا ما أنشد تعبيرًا عن حاله أيضًا:
أسائلكم عنها، فهل،فهل من مخَبِّر؟ |
* | فمالي بِنعُمٍ- مذنات دراها-علم! |
فلو كنتُ أدري أين خيَّم أهلُها؟ |
* | |
إذن لسلكنا مسلك الريح خَلْفها | * | ولو أصبحت نعمٌ، ومن دونها النجمُ! |
وكثير من الناس من يُفيض الله عليه النعمَ، ويمنحهم من جوده، فينعمون بما أنعم لاهين عنه، ويتلذذون بما منحهم من أسباب الملاذ، غير متجهِّمين إليه سبحانه..!
أما أبو سعيد: فكان مسلكه، وكان شعاره شيئًا آخر: إنه يعبر عن منهجه حين يقول:
ينبغي أن يكون فرحك في العطاء بالمعطي، ولذَّتُك في اللَّذَّات بخالق اللَّذَّات، وتنعُّمك في النعم بالمنعم دون النعم؛ لأنَّ ذكر النعمة، عند ذكر المنعم حجاب، ورؤية النعمة عند رؤية المنعم حجاب» ويشرح حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه:
«جُبِلَتِ القلوبُ على حبِّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها...» فيقول:
«وعجبًا ممن لم ير محسنًا غير الله، كيف لا يميل بكلِّيَّته إليه»!!
وفي الاتجاه إلى الله نعيم لا يعدله نعيم، ولذة لا تعدلها لذة... وإذا نعم الناس بملبس يُبلى، أو بمطعم لا تلبث حلاوته أن تزول؛ فإن لأولياء الله نعيمهم المبرَّأَ من الأوضار([3])!!.
إن لهم نعيمهم الروحي، ولكن لهم أيضًا نعيم أبدانهم الطيب الطاهر.
يقول أبو سعيد:
«إن الله تعالى عجَّلَ لأرواح أوليائه التلذذَ بذكره، والوصولَ إلى قربه، وعجَّلَ لأبدانهم النعمة بما نالوه من مصالحهم، وأجزلَ نصيبهم من كل كائن» فعيش أبدانهم: عيش الجنانيين (أهل الجنة)، وعيش أرواحهم: عيش الربانيين».
ولا عجب، بعد ذلك، أنه إذا أنس الناس بالأخلاء والأخدان، أن يكون أنس أبي سعيد بالله؛ ولا عجب أن يكون حديثه عن الآنس بالله يمتاز بالدقة والوضوح.
يقول أبو سعيد وقد سئل عن الأنس بالله: ما هو؟.
«استبشار القلوب بقرب الله تعالى، وسرورها به، وهدوؤها: في سكونها إليه وأمنها معه؛ من حيث الروعات، وإعفاؤه لها من كل مادونه أن تشير إليه، حتى يكون المشير؛ لأنها ناعمة به ولا تحمل جفاء غيره».
حياته:
بغدادي النشأة والمنبت، ولد في أوائل القرن الثالث الهجري تقريبًا، واشتهر بأبي سعيد الخراز، واسمه: أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز.
وقد صحب ذا النون المصري، وسريًّا السقطي، وبشر بن الحارث، ونظراءهم.
يذكره صاحب (طبقات الصوفية)، فيقول: «هو من أئمة القوم، وجلَّة مشايخهم».
ويذكر أنه قيل: «إنه أول من تكلم في علم الفناء».
أما صاحب (الحلية)، فإنه يقول عنه:
«ومنهم: العارف المعروف، الكامل، بالبيان موصوف، له الكتب المذكورة، والأجوبة المشهورة، صحب ذا النون ونظراءه، انتشرت بركاته على أصحابه ومتبعيه، سيِّدُ من تكلَّم في علم الفناء والبقاء».
ويتحدث مؤرخوه، كلهم تقريبًا: بأنه روى الحديث التالي بإسناده:
«سوء الخلق: شؤم، وشراركم: أسوأُكم أخلاقًا».
وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته:
فيذكر صاحب (الرسالة القشيرية): سنة سبع وسبعين ومائتين.
ويذكر صاحب (الطبقات): سنة تسع وسبعين ومائتين.
رأيه في المعرفة:
يهدف الصوفية دائمًا إلى معرفة ما وراء الطبيعة معرفة يقينية، ولكن كيف تتأتى المعرفة؟
إنها - حسبما يرى أبو سعيد - : «تأتي القلب من وجهين: من عين الجود، ومن بذل الجهود».
إنها فيض من الله، وإنها اكتساب وجهد، وفي الوصول إليها السعادة، بيد أن طريقها -وهو نفس الطريق إلى الله-: ليس سهلاً هينًا، وإذا كانت الغاية نفيسة فلا يتأتى أن يكون سبيلها تافهًا.
كيف نصل إلى الله؟ ما هو الطريق إليه؟ كيف نصل إلى خالص العلم؟ كيف نرد على حياض المعرفة؟
سُئل أبو سعيد عن أوائل الطريق إلى الله، فبين أنه:
التوبة، ثم ذكر شرائطها، ورسم الطريق الذي يرسمه الصوفية، وهو: طريق نفساني سيكلوجي، من أدق ما يكون، ينتقل فيه الإنسان من مرحلة إلى مرحلة؛ مترقيًا من مقام التوبة، حتى يصل إلى مقام المحبين، ويترقى إلى مقام المقربين.
فإذا وصل إلى هذه المرحلة، أدمنت روحه النظر في النعمة، وفكرت في الأيادي والإحسان؛ فانفردت بالذكر، وجالت في ملكوت عزِّ الله؛ بخالص العلم به، واردة على حياض المعرفة، إليه صادرة، ولبابه قارعة، فنعمت وسعدت.
ولنذكر ذلك بأسلوبه، نقلا عن كتاب:(حلية الأولياء):
قال أبو سعيد: «إن أوائل الطريق إلى الله التوبة».
وذكر شرائطها:
«ثم ينقل من مقام التوبة إلى مقام الخوف.
ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء.
ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين.
ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين.
ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين.
ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين.
ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين.
ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء.
ومن مقام الأولياء إلى مقام المقربين.
وذكروا لكل مقام عشر شرائط، إذا عاناها وأحكمها، وحلت القلوب هذه المحلة:أدمنت النظر في النعمة، وفكرت في الأيادي والإحسان.
فانفردت النفوس بالذكر، وجالت الأرواح في ملكوت عزه بخالص العلم به واردة، على حياض المعرفة، إليه صادرة، ولبابه قارعة، وإليه في محبته ناظرة.
أما سمعت قول الحكيم وهو يقول:
أراعي سواد الليل أنسًا بذكره |
* | وشوقًا إليه، غير مستكره الصبر |
ولكن: سُرورًا دائمًا، وتعرُّضًا |
* | وقرعًا لباب الرَّب: ذي العزِّ والفخر |
فحالهم: أنهم قربوا فلم يتباعدوا، ورُفعتْ لهم منازل؛ فلم يخفضوا، ونُوِّرتْ قلوبهم لكي ينظروا إلى ملك عدن، بها ينزلون؛ فتاهوا بمن يعبدون، وتعزَّزُوا بمن به يكتفون.
حلوا فلم يظعنوا، واستوطنوا محلته فلم يرحلوا، فهم الأولياء، وهم العاملون، وهم الأصفياء، وهم المقربون([4]).
أين يذهبون عن مقام قرب، هم به آمنون؟ وعزُّوا في غرف، هم بها ساكنون، جزاء بما كانوا يعملون، فلمثل هذا فليعمل العاملون».
فإذا ما ورد الإنسان حياض المعرفة، هل يتأتى له أن يعلم ما يخاف الشريعة؟
هل الباطن، وهو المعرفة التي وصل إليها، يخالف الظاهر؟
هل الحقيقة تخالف الشريعة ؟!
يقول أبو سعيد كلمته الحاسمة: كل باطن يخالف ظاهرًا: فهو باطل.
وكتاب (الصدق)، وهو الوحيد الذي بقي من آثاره([5])، والذي نقدمه اليوم، مغتبطين، إلى القراء: كان من الكتب التي يتوارثها الصوفية، ويحيطونها بالكتمان، ويضنون بها على غير أهلها؛ لأنها ذخيرة نفيسة، لا يصح أن تبتذل للعامة، وكأنها لؤلؤة مكنونة، لا يستساغ أن تقتحمها أعين الدهماء.
والواقع، أنه مختصر في غاية النفاسة، يرسم في دقة وفي وضوح الطريق إلى الله([6]).
عبدالحليم محمود
([5]) لقد كان كتاب (الصدق) هو الكتاب الوحيد إلى عهد قريب جدًّا، ثم اكتشف الأستاذ آربري مجموعة من رسائل الخراز ضمن مخطوط يحتوي على كتب ورسائل صوفية،ولقد حقق الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي ما يخص الخراز فيها، ونشر في مجلة المجمع العلمي العراقي: المجلد الخامس عشر سنة67 كتاب (الصفاء)، وكتاب (الضياء)، وكتاب (الكشف والبيان)، وكتاب (الفرع)، وكتاب (الحقائق) فجزاه الله خير الجزاء وقد وقعت هذه الكتب فيما يقرب من أربعين صحيفة.
([6]) كتب الإمام الأكبر } بعد ذلك مقدمة مختصرة للطبعة الثالثة من الكتاب، نقتطف منها ما يلي:
إن المسلمين الأول علموا الحقيقة البدهية، وهي: أن المجتمعات، لا تقوم إلا علىٰ الأخلاق.
لقد كان واضحًا في أذهانهم ما قاله شوقي رحمه اللّٰه:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت |
* | فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
لقد كتبوا -رضوان اللّٰه عليهم- كثيرًا في الأخلاق؛ ليهيئوا بذلك الأمة الإسلامية؛ لتكون في مراكز القيادة في هذا الجانب.
وأخذ الكتَّاب ينشرون الفكرة الإسلامية، من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن تَبِعَهُ من الراشدين المهديين. وبعض الكاتبين التزم في ذلك القرآن والسنة فحسب، كما فعل الإمام النووي -رضوان اللّٰه عليه- في كتابه النفيس (رياض الصالحين)، وكما فعل الإمام الحافظ المنذري في كتابه المبارك (الترغيب والترهيب).
وبعض الكاتبين اتخذ القرآن والسنة أساسًا، ثم استفاض في ذكر آراء الأسلاف السابقين وذكر حكايات عنهم، تهدي الإنسان إلى الرشد، وتقوده إلى الصراط المستقيم.
من ذلك: الكتاب الخالد (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي.
وكل كتب الأحاديث، وكل كتب تفسير القرآن، إنما هي -علىٰ وجه العموم- تربية للشخص، تسير به إلى المثل الأعلى. وهذا المثل الأعلى، إنما يتمثل في معنى كلمة (الإسلام)، أي العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، والخضوع المطلق له وحده.
وإنما يتمثل ذلك في قوله تعالى لرسوله الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ الأنعام:162-163.
إن الهجرة إلى اللّٰه: أسسًا وبواعث، وغاية وأهدافًا وكيفية، يضمها كتاب اللّٰه وسنة رسوله.
وما تضمنه كتاب اللّٰه وسنة رسوله معصوم: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ فصلت:42.
ومن أجل ذلك: تشبث أسلافنا -رضوان اللّٰه عليهم- بهذه العصمة، وكتبوا في ذلك، متخذين القرآن، وسلوك رسول اللّٰه > وأقواله: القدوة الحسنة، والأسوة الكريمة.واهتدى بهديهم ما لا حصر له من الأفراد.
وخَلَف من بعدهم خلوف: اتجهوا -في عصرنا الحاضر- إلى (أوربا) يستمدون منها السلوك، وتفرَّقت بهم الطرق، وتشتتت بهم الأهواء، وفسد بهم وبآرائهم الكثير. وكان لا بد من العودة إلى النهج السلفي.
ومن هنا كان حرصنا علىٰ نشر هذا الكتاب النفيس (كتاب الصدق).
والله نرجو أن يهدي له، وأن يهدي به، وأن يجعله من اللبنات التي يتكون منها الجو الأخلاقي الذي يعتصم بالله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ آل عمران:101.