سبيل النجاة "الإخلاص ،الصبر ،الصدق"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال الشَّيخ الإمام العارف: أبو سعيد أحمد بن عيسى البغدادي الخرَّاز قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه:
قلت لبعض العلماء: أخبرني عن الصِّدق، كيف هو؟ وما معناه؟ وكيف العمل به، حتى أعرفه؟
فقال: الصِّدق اسم للمعاني كلِّها، وهو داخلٌ فيها.
أتحب أن أجيب عن مسألتك جوابًا مختصرًا، أجمله، أم أشرح لك العلم والعمل بالأصول الَّتي بها تقومُ الفروع؟
قلت: أريد الأمريْن جميعًا؛ ليكون ذلك علمًا لي، وفقهًا، ونصرةً.
فقال: وُفِّقْتَ، إن شاء الله!
اعلم: أنه لا بد للمريد، المحقق في إيمانه، والمطالب لسلوك سبيل النجاة، من معرفة ثلاثة أصول يعمل بها؛ فبذلك يقوى إيمانه، وتقوم حقائقه، وتثبت فروعه، فتصفو عند ذلك الأعمال وتخلص، إن شاء الله:
فأولها الإخلاص:
لقول الله عز وجل: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾([1]).
وقال تعالىٰ: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾([2]).
وقال لمحمَّد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾([3]).
وقال: ﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾([4]).
وقال جلَّ ذكره: ﴿وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾([5]).
ونحو هذا في القرآن كثير، وفي هذا مقنع.
ثمَّ الصِّدق:
لقول الله، عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾([6]).
وقال تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾([7]).
وقال: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾([8]).
وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ﴾([9]).
وقال: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾([10]).
وقال تعالى: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾([11]).
وهذا كثير في القرآن.
ثمَّ الصَّبر:
لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾([12]).
وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾([13]).
وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾([14]).
وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾([15])، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾([16]).
وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾([17])، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾([18]).
وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾([19]).
فجعل لهم الكرامة بالبشرى.
وهذا كثيرٌ مؤكَّدٌ في القرآن.
* * *
وهذه ثلاثة([20]) أقسام لمعان مختلفة، وهي داخلة في جميع الأعمال.
ولا تتمُّ الأعمال إلاَّ بها، فإذا فارقت الأعمال فسدت ولم تتم.
ولا يتم بعض هذه الأصول الثَّلاثة إلا ببعض، فمتى فقد أحدها تعطَّلت الأخرى.
قالت: فالإخلاص لا يتم إلا بالصدق فيه، والصبر عليه.
والصَّبر لا يتم إلا بالصِّدق فيه، والإخلاص فيه.
والصِّدق لا يتم إلا بالصبر عليه، والإخلاص فيه.
الإخلاص:
فأوَّل الأعمال هو الإخلاص.
فالفرض الواجب: أن تؤمن بالله، وتعلم وتقرَّ وتشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنَّه: الأوَّل والآخر، والظَّاهر والباطن، والخالق والبارئ والمصوِّر، والرَّزَّاق، والمحيي والمميت، الَّذي إليه تُرجع الأمورُ، وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، جاء بالحقِّ من عند الحقِّ، وأنَّ النبيين حقٌّ، وبالحقِّ أدُّوا الرِّسالة، وبالغوا([21]) في النَّصيحة، وأنَّ الجنَّة حقٌّ، والبعث حقٌّ، والمردَّ إلى الله تعالى، يغفر لمن يشاء، ويُعذِّب من يشاء.
ويكون ذلك عقدَك([22]) ظاهرًا على لسانك، بلا شكٍّ ولا ريب، ساكنًا([23]) قلبك، مطمئنًّا إلى ما صدقت به وأقررت.
وكذلك لا يعارضك- في كل ما جاء من عند الله على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم شكٌّ في كل ماذكره عن ربه عز وجل، غير مخالفٍ لما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم([24])، وأصحابُه وأئمَّة الهدى، الَّذي كانوا قدوة لمن جاء بعدهم من أهل الهداية، ثمَّ التابعون من بعدهم، ثمَّ علماء كل عصر، متبعًا للجماعة، مخلصًا في ذلك للَّه وحده، لاتُريد إلا اللَّه تعالى؛ ليتمَّ إسلامك، وإيمانك، وتوحيدك.
وهو الذي أمر الله تعالى به حين يقول: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾([25]).
فمن شرح ذلك: أن يكون العبد يريد الله عز وجل بجميع أعماله وأفعاله وحركاته كلها، ظاهرها وباطنها، لايريد بها إلا الله وحده، قائمًا بعقله وعلمه على نفسه وقلبه، راعيًا لهمه، قاصدًا إلى الله تعالى بجميع أمره، لا يحب مدح أحد ولا ثناءه، ولا يفرح بعمله إذا اطلع عليه المخلوقون، فإن عارضه([26]) من ذلك شيء اتقاه([27]) بالسرعة والكراهية، ولم يكن([28]) إليه، لكن إذا أثنى عليه أحد، حمد الله على ستره عليه([29]) حين وفَّقه لخير رآه العباد عليه.
نعم، ثم يخاف عند ذلك، من عمله الردئ، وسريرته القبيحة التي خفيت على الناس ولم تخف على الله، فأشفق من ذلك، وخاف أن تكون سريرته أقبح من علانيته.
فهكذا يروى في الحديث: «السريرة إذا كانت أقبح من العلانية فذلك الجور، فإذا استوت السريرة والعلانية فذلك العدل، وإذا فضلت السريرة على العلانية فذلك الفضل».
فالواجب على العبد أن يخفى عمله([30]) جهده حتى لا يطلع عليه إلا الله تعالى؛ فذلك أبلغ في رضا الله عز وجل، وأعظم في مضاعفة الثواب، وأقرب إلى السلامة، وأوهن لكيد العدو، وأبعد من الآفات.
وروى عن سفيان الثوري رحمه الله، أنه قال: «ما أعبأ بما يظهر من عملي».
ويروى في الحديث: «أن عمل السر يفضل على عمل العلانية سبعين ضعفا»([31]).
ويروى: «إن العبد ليعمل العمل في السر، فيدعه الشيطان عشرين سنة، ثم يدعوه إلى أن يظهره، ويذكره فيُنْقَل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فينقص من ثواب العمل وفضله، ثم لا يزال يذكِّره بذكره أعماله، حتى يذكرها للناس، ويتحلى([32]) اطلاعهم عليها، ويسكن([33]) إلى ثنائهم فيصير رئاء»([34]).
فهذه الأمور: ضدُّ الإخلاص، وما ذكرنا، فهو من جملة الإخلاص الذي لا بد للمخبتين من معرفته والعمل به ولا يسعهم جهله، وتبقى الزيادة في الإخلاص مع العبد إذا أحكم هذه الأصول.
قلت: ثم ماذا؟
قال: مما يمكن أن يذكر أن يكون العبد لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يتزين إلا لله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يبالي إذا وافق الأمر الذي فيه محبة الله ورضاه، من سخطه.
وما بقي من ذكر غاية الإخلاص أكثر، وفي هذا بلاغ للمريدين السالكين للطريق.
الصبر:
والصبر اسم لمعان ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة فهى ثلاث:
فأولها: الصبر على أداء فرائض الله تعالى، على كل حال، في الشدة والرخاء، والعافية والبلاء، طوعًا وكرهًا.
ثم الصبر الثاني: هو الصبر عن كل ما نهى الله تعالى عنه، ومنع النفس من كل ما مالت إليه بهواها مما ليس لله تعالى فيه رضًا، طوعًا وكرهًا.
وهذان صبران في موطنين؛ هما فرض على العباد أن يعملوا بهما.
ثم الصبر الثالث: هو الصبر على النوافل وأعمال البر، مما يُقرِّب العبد إلى الله؛ فيحمل نفسه على بلوغ الغاية منه للذى رجاه من ثواب الله عز وجل.
وهكذا يروى، أن النبي، صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه عز وجل قال: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»([35]).
والصبر الرابع([36]): هو الصبر على قَبُول الحق ممن جاءك به من الناس، ودعاك اليه بالنصيحة، فيقبل منه؛ لأن الحق رسول من الله -جل ذكره- إلى العباد، ولا يجوز لهم ردُّه، فمن ترك قَبُول الحق ورده؛ فإنما يرد على الله تعالى أمره!
وهذا ظاهر الصبر الواجب على الخلق الذي لا يسعهم جهله ولا بد لهم منه.
وبقي شرح حقائق الصبر وغايته، الذي يكون مع الصابرين بعد إحكام هذا الصبر الذي ذكرناه.
قلت: فالصبر في نفسه، ما هو وما موجوده في القلب؟
قال: الصبر هو احتمال مكروه النفس.
وموجوده: إذا وقع بالنفس ما تكرهه تجرعت ذلك وأنفت الجزع، وتركت البثَّ والشكوى، وكتمت مانزل بها.
لأنه يروى في الحديث: «من بث([37]) فقد شكا».
ألم تسمع الله تعالى يقول: ﴿وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ([38]) وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾([39]).
أفلا ترى أنه كظم ما كَرِهَ، وشقَّ على نفسه احتماله؛ فصار صابرًا!! فإذا أبدى الجزع وكافأ من أساء إليه([40])، ولم يعف عمن أساء إليه؛ خرج من حد الصبر على هذا القياس.
قلت: فماذا يقوي الصابر على الصبر، وبماذا يتم له؟
قال: يروى في الحديث: «إن الصبر عن المكاره، من حسن اليقين».
ويروى: «إن الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله»([41]).
وذلك أن العبد لما آمن بالله تعالى، وصدَّق قوله في الذي وعده وتواعده؛ قامت في قلبه الرغبة في ثواب الله تعالى الذي عبده، ولزمت قلبه الخشية من عقاب الله الذي تواعده، وصحَّت عند ذلك رغبته، وقامت عزيمته في طلب النجاة مما يخافه، وهاجت آماله في الظفر بالذي يرجوه، فجد([42]) عند ذلك في الطلب والهرب، فسكن الخوف والرجاء قلبه؛ فركب عند ذلك مطية الصبر، وتجرع مرارته عند نزوله، ومضى في إنفاذ العزائم، وحذر من نقصها، فوقع عليه اسم الصبر.
الصـدق:
والصدق اسم لمعانٍ كثيرة: فأول الصدق هو صدق العبد في الإنابة([43]) إلى الله تعالى، بالتوبة النصوح لقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾([44]).
وقال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([45]).
وقال تعالىٰ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾([46]).
فأول التوبة هو الندم على ماكان من التفريط في أمر الله تعالى ونهيه، والعزيمة على ترك العود في شيء مما يكره الله عز وجل، ودوام الاستغفار، ورد كل مظلمة للعباد من مالهم، والاعتراف لله تعالى ولهم، ولزوم الخوف والحزن والإشفاق ألا تكون مصححا، والخوف ألا تقبل توبتك([47])، ولا تأمن أن يكون قد رآك الله تعالى، على بعض ما يكره فمقتك.
وهكذا يروى عن الحسن البصري رضى الله عنه أنه قال: ما يؤمِّنني أن يكون قد رآني على بعض ما يكره، فقال: اعمل ما شئت؛ فلا غفرت؟
ويروى عنه أيضًا أنه قال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي.
وبلغني أن بعض العلماء لقي بعض الناس فقال له: تبت؟
قال: نعم.
قال: قُبِلت؟
قال: لا أدري.
قال: اذهب فادرِ.
وقال: «يفنى حزن كل ثكلى([48]) وحزن التائب ما يفنى!».
ومن صدق التوبة: ترك الأخدان والأصحاب الذين أعانوك على تضييع أمر الله تعالى، والهرب منهم، وأن تتخذهم أعداء، أو يرجعوا إلى الله.
فهكذا قال الله عز وجل: ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ﴾([49]).
ومن صدق التوبة: خروج المأثم من القلب، والحذر من خفايا التطلُّع إلى ذكر شيء مما أنبت([50]) إلى الله منه، قال الله عز وجل: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾([51]).
واعلم أن المؤمن كلما صحَّحَ، وكثر علمه بالله تعالى، دقت عليه التوبة أبدًا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مئة مَرَّةٍ»([52]).
فمن طهَّر قلبه من الآثام والأدناس وسكنه النور؛ لم يخف عليه ما يدخل قلبه من خفيِّ الآفة، وما يلزمه من القسوة، من الهمة بالزلة قبل الفعل، فيتوب عند ذلك.
([24]) وذلك قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65].
([30]) قوله: أن يخفى عمله: أي الذي لم يطلب الشرع فيه الظهور؛ لأن الشعائر كلها كالحج والعمرة والجماعة في الصلوات و...إلخ مطلوب فيها الظهور شرعًا.
وأما غير الشعائر: كالصدقات وعمل البر أيًّا كان، فالأمر فيه علىٰ ما يأتي إن كان مرشدًا، أو قصد الحث عليه تعيَّن إظهاره ليؤدي المطلوب، كما كان في حديث: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرها وَوِزْر مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يومِ القيامة». فإظهار الخير والبر بقصد الإرشاد المطلوب.
لكن محل ذلك إذا آنس من قلبه اتجاهًا إلى اللّٰه وحده، ولم يخش تمرد الأمارة بالسوء، وإليك ميزانًا لمعرفة ذلك الاتجاه، وهو: إن كان المريد أشد فرحًا وتلذذًا به في خلوته فعله، وإلا فلا.
([35]) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تعالىٰ قَالَ: مَنْ عَادَى لِيْ وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ». رواه البخاري.
وعن أَنَس } عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». رواه البخاري.
([47]) إن المؤلف -رضوان اللّٰه عليه- يحاول ما أمكن أن يوقظ الضمير الديني في قوة. وأن يهز الشعور الروحي هزة تنبهه من غفلته. وكلامه متجه إلى من شاب توبته شيء من التردد. ولعل الواجب شرعًا: أن يوقن قبول اللّٰه لتوبته، إذا تاب توبة نصوحًا بشروطها؛ لأن في توبة العبد طلب الغفران من اللّٰه تعالى، وقد جاء: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ». وجاء عن اللّٰه تعالى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي». أو كما قال.
والمؤمن لا ييأس من روح اللّٰه ولا يقنط، كما جاء في الكتاب الكريم، وجاء في الأحاديث الصحيحة الكثير من فرح اللّٰه تعالى بتوبة العبد الذي جاء إلى اللّٰه بقراب الأرض ذنوبًا، ولعل الأنسب أن يقال: إن التوبة لطف من اللّٰه تعالى، الذي أيقظ قلبه لتوبته؛ لأن المعصية تورثه القسوة، فلم يعد يتذوق حلاوة الطاعة ومرارة المعصية، فيستمر إلى أن يموت كافرًا، ولا يأمن الشيطان الذي يغريه بالمعصية أولاً، وأن له أن يتوب ثانيًا. وذلك دأب الشيطان مع بعض الصالحين، يزين لهم التوبة بعد المعصية، وقد غفلوا عما ذكر من يقظة القلب قبل المعصية، وغفلته بعدها.
نعم، عليه أن يذكر شبح المعصية، وأنها تؤدي به، لولا لطف اللّٰه الذي نبهه وألهمه التوبة، وأنه لا يضمن ذلك بعد أية معصية، فيستمر في حذر من كيد الشيطان، إنه عدو مضل مبين.
([49]) سورة الزُّخرف الآية:67، ومنه قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً﴾ الفرقان:27-29، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود:113].