باب الصدق في معرفة نعم الله تعالى والشكر له
قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾([1]).
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾([2]).
وقال: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾([3]).
فإذا أفاق العبد من الغفلة، فكر ونظر إلى نعم الله تعالى عليه، وتكاملها قديمًا وحديثًا.
فأما نعمه القديمة، فذكره لك قبل أن تك شيئًا، وما خصك به من توحيده والإيمان به، والمعرفة له، فأجرى باسمك القلم في اللوح المحفوظ مسلمًا، ثم أهلك القرون السالفة، وجعلك في شرذمة من المؤمنين ناجية، حتى أخرجك في خير أمة وأكرم دين، ومن أمة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هداك للسنة، واستعملك بالشريعة وباعدك من الزيغ والأهواء، ثم رباك وكلأك وغذاك حتى وجبت عليك الأحكام.
فأغفلت نعمته، وفرطت في حفظ وصيته، وركبت هواك من عمرك حينًا، وفي كل ذاك لا يكافئك بإساءتك؛ بل يسترك ويحلم عنك، وينظرك.
ثم عطف عليك بعد ذلك، بعد ما كنت شرودًا فأيقظك من الغفلة، وعرفك ما فاتك من حظك من طاعتك، فوهب لك الإنابة إليه، وأجلسك على طيب مرضاته.
فوجب عليك الآن شكر بعد شكر! فأي نعماه تحصي، وعلى أيها تشكر؟
ولا بد من معرفة الشكر، ومباشرته.
والشكر على ثلاثة وجوه؛ شكر القلب، وشكر اللسان، وشكر البدن.
فأما شكر القلب: فهو أن تعلم أن النعم من الله وحده لامن غيره.
وأما شكر اللسان: فالحمد والثناء عليه، ونشر آلائه، وذكر إحسانه.
وأما شكر البدن: فلا تستعمل جارحة- أصحها الله تعالى وأحسن خلقها- في معصية؛ بل تطيع الله تعالى بها.
وكذلك كل ما خولك وملكك من الدنيا جعلته عونًا لك على طاعته، ولم تخوله في باطل، ولم تنفقه في سرف، ثم تبذل لله عز وجل ذكره وعز جده الخدمة، وتعطيه الجهد من نفسك.
وهكذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قام حتى تورمت قدماه؟ فقيل له: يا رسول الله، ما هذا التعب؟ أليس قد غفر الله لك؟! قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
وقال الله عز وجل: ﴿اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾([4])
وقال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾([5])
فإذا بلغ العبد من الشكر لله عز وجل غاية؛ انقطع فنظر، فإذا شكره نعمة من الله تعالى، تحتاج إلى أن يشكر الله تعالى عليها، إذ جعله من الشاكرين، فعمل عند ذلك في شكر الشكر، ثم كاد يتحير؛ تواترت عليه من الله تعالى الألطاف بالبر والكرامات.
وبلغنا أنه فيما ناجى به موسى عليه السلام ربه عز وجل، قال: يارب أمرتني بالشكر على نعمتك، وإنما شكري إياك نعمة من نعمك.
فأوحى الله إليه: لقد علمت العلم؛ إذ علمت أن ذاك مني فقد شكرتني.
وقال عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: ذكر النعمة شكر ما، فدلت النعم على محبة المنعم.