باب الصدق في الرضا عن الله عز وجل
قال الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([1]).
قال بعض العلماء رحمهم الله تعالى ما شهد الله تعالى لهم بالإيمان، حين لم يرضوا بحكم نبيه. فكيف إذا لم يرضوا بحكمه عز وجل؟!
قلت: فما علامة الرضا في القلب. وما موجوده؟
قال: سرور القلب بمر القضاء.
وقال بعضهم: الرضا تلقي المصائب بالرجاء والبشر.
وروي عن أنس بن مالك رضى الله عنه، أنه قال: كنت خادم النبي صلى الله عليه وسلم فما قال لي لشيء قط لما فعلت أو ألَا فعلت. إنما كان يقول: «كذا قضى، وكذا قدر»([2]).
وروى عمر بن الخطاب رضى الله عنهأنه قال: ما أبالي على ما أصبحت وما أمسيت على ما أحب أو على ما أكره، لأني لا أدري أيهما([3]) خير لي.
وقال عمر أيضًا: لو أن الصبر والشر بعيران لي ما أبالي على أيهما ركبت.
فهذا يدلك على الرضا من قول عمر عز وجل؛ لأن الصبر لا يكون إلا على ما يكره، والشكر لا يكون إلا على ما يحب، فقال: لا أبالي أيهما وقع لي؛ وذلك لاستواء الحالين عنده.
ويروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، أنه قال: حبذا المكروهات وايم الله ما هو إلا الغنى والفقر، وإن حق كل واحد منهما لواجب إن كان الغنى فإن فيه العطف. وإن كان الفقر فإن فيه الصبر.
وقال عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه: أصبحت ومالي في الأمور من اختيار.
وقال بعضهم: ومالي من النعم سوى مواقع القدر في، كائنًا ما كان وكان قد سقي السم، فقيل له: تعالج، فقال: لو علمت أن شفائي في أن أمسَّ أنفي أو أذني ما فعلت.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضى الله عنه: «يابن أم عبد لا يكثر همك، ما يقدر يكن، وما ترزق تأكله»([4]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة طويلة لابن عباس رضي الله عنهما: «فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، وإلا ففي الصبر على ما تكره خير كبير»([5]).
أفلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى أعلى الحالين.
وقال بعض الحكماء: إذا استتم في العبد الزهد والتوكل والمحبة واليقين والحياء صح له الرضا.
وهو عندنا كما قال وإلا فهو مع الناس أوقات وخطرات([6]) على قدر إيمانهم، ثم يعودون إلى الصبر.
وقال بعضهم: الرضا قليل، ومعول([7]) المؤمن الصبر.
فقلت: اشرح لي قول الحكيم: الراضى يتلقى المصائب بالبشر والسرور.
قال: إن العبد لما صدق في محبته، وقعت بينه وبين الله تعالى، المفاوضة والتسليم؛ فزالت عن قلبه التهم، وسكن إلى حسن اختيار من أحبه، ونزل في حسن تدبيره وذاق طعم الوجود به، فامتلأ فيه فرحًا ونعيمًا وسرورًا، فغلب ذلك ألم المصائب والمكروه والبلوى. فصار اسم البلوى عليه معلقًا. فيستخرج منه إذا نزل به أمور كبيرة، فتارة يتنعم بعلمه به إذا علم أنه يراه في البلوى، وتارة يعلم أنه ذكره فابتلاه ولم يغفل عنه، على عظم قدره أن يولي من أمره ما فيه الصلاح، فيراه تارة يشكو إليه شكوى المحب إلى حبيبه، وتارة يئن إليه، وتارة يطمع أن يراه راضيًا عنه([8]).
فهكذا قال جل ذكره: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾([9]).
فالرضا تعجله العقلاء عن الله عز وجل، في الدنيا قبل الآخرة، فخرجوا من الرضا إلى الرضا.
وهكذا قال عز وجل: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾([10]).
فقد ذكرنا بعض صفات الراضين من ظاهر ما أمكن أن يذكر مثله في كتاب، وما بقي من صفاتهم أكثر.
وبالله التوفيق.
([3]) وفي ذلك يقول النبيصلى الله عليه وسلم: «عجبًا للمؤمن، حال المؤمن كله خير له: إن أصابته نعماء شكر، وإن أصابته ضراء صبر». أو كما قال.
([8]) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن شكا إليه ضعفه وقلة حيلته، وهوانه على الناس: «اللهم إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي».