(وصية لكميل بن زياد وهي أشهر كلامه في التصوف)
(فصل) أما كلام علي فأشهره -وهو الذي أورد كثير من الصوفية في كتبهم- ما أخرجــه أبــو نعيم في الحلية([1]) عن الكميل بن زياد قـال: (أخـذ عـلـي بن أبي طــالب -رضي اللّٰه عنه- بيدي، فأخرجني إلى ناحية الجبان فلما أصحرنا جلس ثم تنفس، ثم قال: (يا كميل بن زياد، القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ ما أقوله لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.. إلى أن قال: إن ها هنا -وأشار بيده إلى صدره- علمًا لو أصبت له حملة بلى، أصبته لقنا غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا يستظهر بحجج اللّٰه على كتابه، وبنعمه على عباده. أو منقادًا لأهل الحق لا بصيرة له في إجابة([2])، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك. أو منهومًا باللذات، سلس القياد للشهوات، مغرى بجمع المال والأولاد([3])، وليس([4]) من دعاة الدين، أقرب شبهًا بالأنعام السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم لن تخلو الأرض من قائم للّٰه بحجة، لكيلا تبطل حجج اللّٰه وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند اللّٰه قدرًا، بهم يدفع اللّٰه عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأَنِسُوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالنظر إلا علىٰ أولئك خلفاء للّٰه في بلاده، ودعاته إلى دينه، فآها وشوقا إلى رؤيتهم).
وأما بقية كلام علي -رضي اللّٰه عنه-، وكلام من ذكر معه، فمسرود في تراجمهم في كتابي المسمى (حلية الأولياء)، وتركت سرده هنا خشية الإطالة.
(فصل) قال عبد الغافر الفارسي: أخذ الأستاذ أبو القاسم القشيري طريق التصوُف عن الأستاذ أبي علي الدقاق. وأخذها أبو علي عن أبي القاسم النصرأباذي عن الشبلي، والشبلي عن الجنيد، والجنيد عن السري السقطي، والسري عن معروف الكرخي، ومعروف عن داود الطائي، وداود لقي التابعين. وهكذا كان يذكر إسناد طريقته.
([1]) قال ثنا حبيب بن الحسن نا محمد بن إسحاق، وثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا أبو نعيم ضرار بن صرد، وثنا أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد الحافظ، ثنا محمد بن الحسين الخثعمي، ثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قالا: حدثنا عاصم بن حميد الخياط، حدثنا ثابت بن أبي صفية عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد، قال: (أخذ علي بن أبي طالب بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبان، فلما أصحرنا جلس ثم تنفس وقال: يا كميل، القلوب أوعية فخيرها أوعاها، واحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم علي سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقة. ومحبة العالم دين يدان بها. العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله. مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه، إن هاهنا....) إلخ.