(ذكر كرامة لأبي بكر -رضي الله عنه-)(ذكر كرامات لعمر -رضي الله عنه-)
ومن حقهم تربية المريد إذا لاحت عليه لوائح الخير، وإمداده بالخاطر والدعاء.
يحكى عن بعض المشايخ أن تلميذه حضر إليه وهو جالس في جماعة، وقد ارتفع النهار، فتفرَّس الشيخ أنه في الليلة الذاهبة قد ارتكب معصية، فنظر إليه نظر مغضب، ولم يمكنه الإفصاح له بمحضر من الجماعة، فنظر التلميذ إلى الشيخ نظرة منكر، فقام الشيخ وجاء وقَبَّل يد المريد. ولم يفهم الجماعة شيئًا، فسئل الشيخ بعد ذلك، فقال: إنه البارحة وقع في الزنا، فنظرت إليه نظرة مغضب لذلك، فنظر إليَّ نظر عاتب يقول: لو كان خاطرك معي وإمدادك مصاحبي لما وقع مني ذلك، فأنت المقصر، فقبلت يده لصدقه، فإن التقصير مني. ومن حقهم الوقوف على إظهار ما يطلعهم الله عليه من المغيبات، ويخصهم به من الكرامات، على الإذن، وهم لا يجيزون إظهارها بلا فائدة، ولا يظهرونها إلا عن إذن، لفائدة دينية، من تربية أو بشارة أو نذارة كما قال الصديق لعائشة -رضي الله عنهما- عند موته: إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ. قَالَتْ: إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الأُخْرَىٰ؟ قَالَ: ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ. أُرَاهَا جَارِيَةً. فولدت بعد وفاته بنتا([1]). فلم يظهر أبو بكر ذلك إلا لاستطابة قلب عائشة عن استرجاع ما كان يخصها من الإرث.
وكذلك قول عمر([2]) -رضي الله عنه-: يا سارية الجبل الجبل. وقصته في الزلزلة وإجراء النّيل، وغير ذلك، وإنما أظهرها لمصلحة.
وكرامات عمر -رضي الله عنه- أكثر من أن تحصر، وهي من تمكنه في الأرض ظاهرًا وباطنًا، وكونه أمير المؤمنين على الحقيقة، وخليفة الله في أرضه وساكني أرضه.
وإذا علمت أن خاصة القوم هم الصوفية فاعلم أنه قد تشبه بهم أقوام ليسوا منهم، فأوجب تشبه هؤلاء بهم سوء الظن، ولعل ذلك من الله قصدًا لخفاء هذه الطائفة التي تؤثر الخمول على الظهور.
ثم قال: وعلى الشيخ تربية المريد وحمل الأذى والضيم على نفسه، واعتبار قلوب جماعته قبل قوالبهم، والكلام مع كل منهم بحسب ما يقبله عقله، وتحمله قواه، ويصل إليه ذهنه، والكف عن ذكر ألفاظ ليس سامعها من أهلاً، كالتجلي والمشاهدة ورفع الحجاب، إذا كان السامع بعيدًا عنها، فإن في ذكرها له من المفاسد ما لا خفاء به. بل يأخذ المريد بالصلاة والتلاوة والذكر، ويربيه على التدريج.
والله الله في ألفاظ جرت من بعض سادات القوم لم يعنوا بها ظواهرها، وإنما عنوا بها أمورًا صحيحة، فلا ينبغي للشيخ ذكرها لمريد فإنه يضله، مثل ما يقال عن بعضهم: العلم حجاب. فإنه ما يريد به ظاهر ما يفهمه المبتدئ منه، ولكن له معنى لا يناسب حال المبتدي الكشف عنه.
وغير ذلك من ألفاظ ربما جرى بعضها في حالة السكر، فإنها مما لا يقتدى بها، ولا يوجب القدح في قائلها، بل نسلم إليه حاله، ونقيم عذره فيما سقط من بين شفتيه حال الغيبة فإن الشارع لم يكلف غائب الذهن. هذا إذا فقدت أسباب التأويل لكلامه بالكلية، ولن تجد ذلك إن شاء الله في كلام أحد من المعتبرين، قد نزه الله ألفاظهم عن الأباطيل، وما لهم كلمة إلا ولها محمل حسن.
هذا كله كلام السبكي.
وقال: في موضع آخر من هذا الكتاب: ومن الفقهاء فرقة متنسكة تجري على ظواهر الشرع، وتحسن أوامر الله ونواهيه إلا أنها تهزأ بالفقراء وأهل التصوف، ولا تعتقد فيهم شيئًا، ويعيبون عليهم السماع وأمورًا كثيرة.
والسّماع قد عرف اختلاف الناس فيه، وتلك الأمور قَلَّ أن يفهمها من يعيبها، والواجب تسليم أحوال القوم لهم، فإنا لا نأخذ أحدًا إلا بجريمة ظاهرة، ومتى أمكننا تأويل كلامهم وحمله على محمل حسن، لا نعدل عن ذلك، لا سيما من عرفناه بالخير ولزوم الطريقة ثم ندت منه لفظة، فإنها لا تهدم عندنا ما مضى.
وقد جربنا فلم نجد فقيهًا ينكر غلطة أو سقطة على الصوفية إلا ويهلكه الله، وتكون عاقبته وخيمة.
وهؤلاء القوم لا يعاملون بالظواهر، ولا يفيد معهم إلا الباطن ومحض الصفا، وهم أهل الله وخاصته، نفعنا الله بهم، وأكثر من يقع فيهم لا يصلح. انتهى كلام السبكي بحروفه.
([2]) أخرج ابن الأعرابي في كرامات الأولياء، والبيهقي في الدلائل، واللالكائي في شرح السنة، واليرعا قولي في فوائده بإسناد حسن عن ابن عمر قال: وجَّه عمر جيشًا ورَأَّسَ عليهم رجلاً يُدعى سارية، فبينما عمر يخطب جعل ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثًا، ثم قَدِمَ رسول الجيش فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هُزمنا فبينما نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: يا سارية الجبل ثلاثًا، فأسندنا ظهرنا إلىٰ الجبل فهزمهم الله تعالىٰ. وله طرق، بل صحَّحه ابن تيمية. وقصة الزلزلة حاصلها أن الأرض ارتجت علىٰ عهد عمر فضربها بالدرة وقال: اسكني، ألم أعدل عليك، وكانت تضطرب فسكنت. كذا ذكرها ابن السبكي في معيد النعم، ولم أجد لها إسناد أو ملخص. قصة إجراء النيل أن أهل مصر كان من عادتهم أن يرموا في النيل كل سنة بنتًا بكرًا محلاة بالحلي والحلل، معتقدين أن النيل لا يجري إلا بذلك، فلما فتح عمرو بن العاص مصر وأراد أهلها أن يفعلوا ذلك منعهم، وكتب إلىٰ عمر يخبره، فكتب عمر إليه بطاقة وأمره أن يرميها في النيل، وهي: من عبد الله أمير المؤمنين إلىٰ نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلَك فلا تَجْرِ، وإن كان الواحد القهار يُجريك فنسأل الله الواحد القهَّار أن يجريك. فألقاها عمرو في النيل فأجراه الله ستة عشر ذراعًا، وزالت تلك السُّنّة السوء عن أهل مصر. كذا رواها ابن عبد الحكم في تاريخ مصر، وأبو الشيخ في العظمة بإسناد ضعيف.