[حديث اللهم كلأة ككلأة الوليد وبيان من رواه]
وقال القونوي في (شرح التعرف) في حديث «كنت سمعه..» تأويل الحديث أن الله تعالى يتولى من أحبه في جميع أحواله كما يتولى الوالد والوالدة جميع أحوال الطفل, بحيث إنه لا يمشي إلا برجل أحدهما, ولا يأكل إلا بيده فكأنه فنيت صفاته وقامت صفات الوالدين مقامهما لشدة اعتنائهما بحفظه, وتسخير الله إياهما له.
وكذلك ورد في الحديث: "اللهم كلأة ككلأة الوليد»([1]).
فمعنى.. «كنت سمعه..» إلى آخره: أحاطت عنايتي ولطفي به, بحيث يصير فعله وإدراكه كأنه فعلي وإدراكي).
قال: وأما ما يشير إليه أصحاب القول بالاتحاد من ادعائهم كون الحديث على ظاهره, وأن الحق سبحانه وتعالى ما زال سمعا وبصرا ويدا للعبد حقيقة, بدليل قوله: «كنت» وإنما ظهرت له حقيقة الحال حينئذ.. فلا يخفى فساده, لاستحالة كون القديم صفة للحادث. انتهى.
وقال الفاكهي -وهو أحد أئمة المالكية, وأحد المتصوفة, وأحد أصحاب الشيخ أبي العباس المرسي- في حديث: «كنت سمعه..» فهو فيما يظهر لي على حذف مضاف, والتقدير: كنت حافظ سمعه الذي يسمع به, فلا يسمع إلا ما يحل سماعه, وحافظ بصره كذلك.. إلى آخره.
قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله, وهو أن يكون معنى «سمعه» مسموعه, لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول, مثل: فلان أملي, بمعنى مأمولي. والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري, ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي, ولا يأنس إلا بمناجاتي, ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي, فلا يمد يده إلا إلى ما فيه رضاي, ورجله كذلك. نقل هذين التأويلين عنه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري, ثم قال: وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال ما معناه: أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع, وعينه في النظر, ويده في اللمس, ورجله في المشي, وهذا تأويل حسن سائغ وهو لإمام صوفي.
ثم قال الحافظ ابن حجر: وحمله بعض المتأخرين من الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو, وأنه الغاية التي لا شيء وراءها, وهو أن يكون قائما بإقامة الله له, بمحبته له, ناظرا بنظرة له, من غير أن يبقى معه بقية تناط باسم, أو تقف على رسم, أو تتعلق بأمر, أو توصف بوصف. قال: ومعنى هذا الكلام أنه يشهد إقامة الحق له حتى قام, ومحبته له حتى أحبه, ونظره إلى عبده حتى أقبل ناظرا إليه بقلبه. انتهى. ولا إشكال في هذا المعنى أيضا.
ثم قال الحافظ ابن حجر: وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة, حتى يصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا, وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه, الموحد لنفسه, الممجد لنفسه, وأن هذه الأسباب تصير عدما صرفا في شهوده, وإن لم تعدم في الخارج.
ثم قال: ويرد على الاتحادية والقائلين بالوحدة المطلقة قوله في بقية الحديث: «ولئن سألني.. ولئن استعاذني..» فإنه كالصريح في الرد عليهم, يعني حيث أثبت سائلا ومسؤولا ومستعيذًا ومستعاذا به. والى هنا انتهى بنا القول في إبطال القول بالحلول والاتحاد وتنزيه الصديقين عن القول به, وبراءتهم.
ومما يستدل به على براءتهم منه من حيث الجملة أن الأئمة أهل الفقه والكلام, وأكابر أعلام الإسلام, ما زالوا يصحبون أهل الطريق, ويحضرون مجالس وعظهم, ويبالغون في الثناء عليهم, وينقلون عباراتهم وإشاراتهم في دروسهم وتصانيفهم, فلو رأوا منهم ما يشعر بشيء من ذلك لكانوا أول النافرين, والى الإنكار مبادرين, كان إمام الشافعية أبو العباس بن سريج أحد كبار أصحاب الوجوه والفضل على جميع الأصحاب, حتى قيل أنه أفضل من المزني, كذا ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في ترجمته: يحضر مجلس الجنيد, ويسمع كلامه, فيقول أشهد أن لهذا الكلام صولة ليست بصولة مبطل.
قال ابن السبكي في الطبقات عن ابن سريج: أنه تكلم يوما, فأعجب به بعض الحاضرين فقال ابن سريج: هذا ببركة مجالستي لأبي القاسم القشيري صاحب الرسالة([2]).
وحكى ابن السبكي في طبقاته عن ابن السمعاني أنه روى بسنده أن أبا القاسم القشيري حج سنة من السنين, وقد حج في تلك السنة أربعمائة نفس من قضاة المسلمين وأئمتهم من أقطار البلاد وأقاصي الأرض, فأرادوا أن يتكلم واحد منهم في حرم الله, فاتفق الكل على الأستاذ أبي القاسم فتكلم هو باتفاق منهم. وكان ولده أبوالنصر عبدالرحيم أيضًا يحضر عنده الأئمة.
قال ابن السبكي: لزم الأئمة, مثل الإمام أبي إسحاق الشيرازي الذي هو فقيه العراق وقته وعتبة منبره, وأطبقوا على أنه لم ير مثله في تبحره.
ثم قال ابن السبكي: وأعظم ما عظم به أبو النصر أن إمام الحرمين -وهو عصريه- نقل عنه في كتاب الوصية, من النهاية. وهذا فخار لا يعدله شيء. قلت: ونقل عنه الرافعي والنووي في الروضة.
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يحضر عنده الأئمة مثل سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام, والشيخ تقي الدين بن دقيق العبد, هذا مع ما صح عن ابن دقيق العيد من تشديد النكير على الاتحادية وتضليل عقولهم, فلو رأى في كلام الشاذلي ذرة من ذلك لكان أول مبادر إلى إنكارها.
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في (لطائف المنن): سمعت الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد يقول ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبي الحسن الشاذلي.
قال: وأخبرني مكين الدين الأسمر قال: حضرت بالمنصورة في خيمة فيها الشيخ عز الدين بن عبد السلام, والشيخ مجد الدين علي بن وهب القشيري, والشيخ محيي الدين الأخميمي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي, ورسالة القشيري تقرأ عليهم وهم يتكلمون, والشيخ أبو الحسن صامت, وإلى أن فرغ كلامهم فقالوا: يا سيدي نريد أن نسمع كلامك.
فقال: أنتم سادات الوقت وكبراؤه, وقد تكلمتم. فقالوا: لا بد أن نسمع منك. فسكت الشيخ ساعة ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الجليلة, فقال الشيخ عز الدين وقد خرج من صدر الخيمة وفارق موضعه: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله.
وكان الشيخ أبو العباس تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي يحضر مجلسه الأئمة.
قال تلميذه الشيخ تاج الدين في (لطائف المنن): كان علماء الزمن يسلمون له هذا الشأن, حتى كان شيخنا العلامة شمس الدين الأيكي, والأصفهاني, يجلسان بين يديه جلوس المستفيد, آخذين عنه, ومتلقنين ما بيديه, حتى سأله أحدهما عن بعض المشايخ الظاهرين في الوقت: يا سيدي, أتعرفه؟ فقال: أعرفه ها هنا, وأشار إلى الأرض, ولا أعرفه هناك, وأشار إلى السماء.
قلت: فلو كان في طريقة المرسي وكلامه شيء من الاتحاد لم يقربه الأصفهاني الذي محله من علم الكلام والأصول بالمحل المعروف.
وكان الشيخ تاج الدين بن عطاء الله يحضر مجلس وعظه الأئمة مثل الشيخ تقي الدين السبكي إمام وقته تفسيرا وحديثا وفقها وكلاما وأصولا ومنقولا ومعقولا, بل المجتهد الذي لم يأت بعده مثله, ولا قبله من دهر طويل. وقد ذكر السبكي في بعض كتبه أخذه عن الشيخ تاج الدين وحضوره مجلسه ونقل عنه بعض كلامه, وقال إنه متكلم الصوفية على طريق الشاذلية. وفي المعجم المخرج للسبكي أنه قرأ عليه كتابه الحكم, وذكر فيه قطعة منه قرئت عنه واتصلت لنا بالسند إليه, ولو كان في طريق الشاذلية أدنى عوج لم يثن عليها السبكي, ولا ولده ولا أئمة عصره, ومن قاربهم.
ولما كانت طرق التصوف دخل فيها الدخيل, وكانت الطريقة القوية الخالية من البدع, الجارية على قوانين الشريعة, طريقة الجنيد وأتباعه. قال ابن السبكي في (جمع الجوامع): ..وأن([3]) طريق الجنيد فإنها -كما يعرف من تأمل كلام الشاذلي في التعاليق التي رويت عنه وكلام الشيخ تاج الدين في كتبه- دائرة مع الكتاب والسنة, واقفة مع الشرع, زاجرة عن الخواطر التي لم توزن بميزان الشريعة, كما سيأتي نقل شيء من ذلك في الأمر الرابع.
قال سيدي علي بن وفا رحمه الله تعالى, ونفعنا ببركاته والمسلمين:
تمسَّك بحب الشاذلية تلق ما |
* | تروم وحقق ذا الرجاء وحصل |
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم |
* | شموس هدى في أعين المتأمل([4]) |
فإن قلت: في كلام كثير ممن نسب إلى السداد والاستقامة ما يشعر بذلك, كابن الفارض وابن العربي وسيدي محمد وفا وولده سيدي علي.
قلت: الجواب عن ذلك الاعتذار, والتأويل, فإن حسن الظن بآحاد المسلمين واجب، فضلاً عمن تواردت الألسنة بالشهادة له بالولاية, فإن ثناء الناس بذلك شاهد صدق كما نص عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-([5]).
وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملاً)([6]).
وقد كان ابن الفارض في زمن الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري, واجتمع به, وسمع من شعره, وذكره في معجمه, ولم يصفه بسوء عقيدة, وقد أثنى عليه الشيخ عفيف الذين اليافعي -أحد أئمة الشافعية, وأحد الأولياء الكبار- في كتابه (كفاية المعتقد ونكاية المنتقد). وابن العربي, أثنى عليه اليافعي في كتابه المذكور, والشيخ تاج الدين بن عطاء الله في كتابه (لطائف المنن) وهما شاهدا عدل مقبولان في تزكية مثل هذا. فهما فقيهان صوفيان.
قلت: ذلك صونًا عن الوقيعة في أحد, وحفظا للسان, لا رضى بالنظر في الكتب المنسوبة إليه, ولا إذنا في قراءتها لكل أحد. ومعاذ الله أن آذن لأحد في ذلك ثم لا آذن.
وممن نقل كلام ابن العربي وابن الفارض في تأليفه الشيخ علاء الدين القونوي أحد أئمة الشافعية, وهو شارح الحاوي فقيه أصولي صوفي متكلم علامة محقق. فهذا جواب إجمالي وتفصيله بأمور. فأما الاعتذار فبأمرين:
أحدهما: جواز أن يكون ذلك صدر حال سكر وغيبة وقد تقدم في كلام ابن السبكي الاعتذار بذلك, وأن الله رفع التكليف عمن غاب عقله, فلا يؤاخذ بذلك, ولا تحل الوقيعة فيه بسبب ذلك, وإنما الإنكار على من يتلقى ذلك الكلام على ظاهره ويعتقده ويعتمده, فهذا ينكر عليه أشد النكير.
ولهذا قال ابن سريج لما استفتي عن الحلاج: هذا رجل خفي عني حاله, فلا أقول فيه شيئًا. كأنه لم يثبت عنده أنه قال تلك الكلمة في حال صحو.
الثاني: جواز أن يكون ذلك الكلام مفترى عليه, ودسّ في كتابه أو ديوانه, إما من عدو حاسد يريد شينه بذلك, وتنقيصه كما وقع كثيرًا للعلماء, وذكروا عن شرح التنبيه للجيلي أنه مشحون بغرائب لا تعرف في المذهب, وأنها ليست منه, بل أدخلها فيه بعض الحسدة فأفسد بها الكتاب.
وإما من زائع ملحد أراد ترويج أمره ونصرة معتقده, فدسّ هذا الكلام ليأخذه الناس بالقبول, لإحسانهم الظن بهؤلاء الأخيار.
وقد أخبرني بعض القضاة ممن أثق به أن الشيخ عبد الكريم الحضرمي -أحد الأئمة السادة الكبار, وقد اجتمعت أنا به بمكة الشريفة في مرض موته- سئل عن بيت من كلام ابن الفارض, وهو قوله:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة |
* | فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى |
فقال: هذا ليس من كلامه, فإن ابن الفارض عارف, والعارف لا يقول مثل هذا.
وأما التأويل فبأمور:
أحدها: أن العبارة عن المعاني المدركة بالوجدان على ما هي عليه تعسر جدًا, ألا ترى أن الشخص لو أراد أن يصف لذة الجماع لمن لم يباشره, بعبارة توصل ذلك إلى فهمه عن حقيقته لم يستطع ذلك أبدًا؟
ومن الأمور المقررة في العقول أن البديهيات والضروريات لا يمكن حدها. وقد قال الإمام فخر الدين: إن العلم لا يحد لأنه ضروري.
وقال إمام الحرمين: إنه نظري عسر الحد, فيدر([7]) للعارف منهم معنى قائما بقلبه, فيريد التعبير عنه فلا يمكنه عبارة تطيعه, فيأتي بعبارة موهمة, كما قال الغزالي في الفناء: إن العلماء به قصرت عبارتهم عن إيضاحه وبيانه بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الافهام.
وكما قال ابن عباد في (مراتب الشهود): إن التفرقة بين حقائقها على ما هي عليه تعسر العبارة عنها, وإنه زلت بسبب ذلك أقدام كثير من الناس.
وقال صاحب التعرف: مشاهدات القلوب ومشاهدات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق, بل تعلم بالمنازلات والمواجيد, ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال.
زاد القونوي في شرحه: ونظير ذلك حال المسرور والمهموم ومن اتصف بالسرور والهموم.
قال: وقد يجد الإنسان في نفسه أمورا يتحققها وتضيق عنها عباراته, ويقصر عن تعريفها إشاراته.
الثاني: أن يكون من استعمال اللفظ في معنى آخر غير المشهور على ألسنة العلماء, تواضعا منهم أو اصطلاحا بينهم, كلفظ الاتحاد, فإنه يطلق على المعنى المرادف للحلول, كما جمع بينهما الغزالي والبيضاوي, وذلك كفر, ويطلق بمعنى التوحيد وإفراد الأمر كله لله. وقد نبه على ذلك من أئمة التحقيق العلامة سعد الدين التفتازاني, ولهذا قال سيدي علي وفا في قصيدة:
يظنون بي حلولاً واتحادًا |
* | وقلبي من سوى التوحيد خالي |
فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول, وقال في أبيات أخر:
وعلمك أن كل الأمر أمري |
* | هو المعنى المسمى باتحاد |
فذكر أن المعنى الذي يريدونه بالاتحاد -إذا أطلقوا- هو تسليم الأمر لله وترك الإرادة معه, والاختيار والجري على مواضع أقداره, من غير الاعتراض, وترك رؤية الخلق ونسبة العطاء والمنع مثلاً إليهم.
وقال أبو يعقوب: الخالص من الأعمال ما لم يعلم به ملك فيكتبه, ولا عدو فيفسده, ولا النفس فتعجب به.
قال صاحب التعرف: معناه انقطاع العبد إلى الله, والرجوع إليه من فعله. قال القونوي: أي إذا كمل انقطاع العبد إلى الله وفناؤه عن فعله يصير فعله كلا فعل, فكأنه لم يفعل شيئًا, فلا الملك يكتبه, ولا العدو يفسده, ولا النفس تعجب به أي على سبيل التشبيه والتقدير, إذ التقدير أعطى الموجود حكم المعدوم, أو بالعكس.
قال: وأكثر ما يقع في كلام هذه الطائفة من الإشارات محمول على هذا النوع من الاستعارات, ومن حملها على ظاهرها أشكلت عليه معانيها, فأساء الظن بهم انتهى.
الثالث: أن يكون ما وقع في ألفاظهم مضافا إلى أنفسهم وهو مما لا يضاف إلا إلى الله تعالى, فإنهم يقصدون به حكايته عن الله. فإن الكلام ينقسم إلى ما يحكيه المتكلم عن نفسه, والى ما يحكيه عن غيره وإن لم يصرح بالإضافة إليه, كحديث البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ». فهذا إنما قاله -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن ربه, وإن لم يصرح به.
وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات:164]، فهذا على لسان الملائكة وقال: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: من آية 64] فهذا على لسان جبريل.
وهذا نوع لطيف حررت الكلام فيه في (الإتقان).
ومثاله قول سيدي علي وفا رحمه الله تعالى والمسلمين:
كمالك طاعتي في كل حال |
* | ونقصك أن تعاند في مرادي |
فإن هذا ما قاله على لسان الحقيقة. وكذا قول ابن الفارض:
وإن عبد النار المجوس وما انطفت |
* | كما جاء في الأخبار في ألف حجة |
فما عبدوا غيري، وما كان قصدهم |
* | سواي، وإن لم يضمروا عقد نيتي |
قاله أيضًا على لسان الحقيقة, مشيرًا به إلى أن عبادة الكفار وسجودهم للنار والصنم والوثن واقع في الحقيقة لله تعالى, لأن المذكورات أقل أن تعبد ويسجد لها, فتقع السجدة لله على رغم أنف الساجد, وهو كافر بنية السجود لغير الله. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: من آية 15].
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن قتادة في الآية قال: المؤمن يسجد لله طائعًا, والكافر يسجد لله كارهًا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [آل عمران: من آية 83] الآية. قال: عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا.
وأما حسن الظن وعدم الوقيعة فذاك هو الذي دلت عليه الآيات([8]) والأحاديث والآثار ونصوص العلماء, ولأن يخطئ الإنسان في عدم السب خير من أن يخطئ في العقوبة.
والمقصد الشرعي من التحذير حاصل بالتنفير من ذلك الكلام من غير وقيعة فيمن نسب إليه. وقد قال بعض الأئمة: لو عاش الإنسان عمره كله لم يلعن إبليس, لم يسأله الله عنه.
وقال السبكي في فتاويه: اعلم أنا نستصعب القول بالتكفير, لأنه محتاج إلى تحرير المعتقد, وهو صعب من جهة الاطلاع على ما في القلب, وتخليصه عما يشبهه, وتحريره, ويكاد الشخص يصعب عليه تحرير اعتقاد نفسه, فضلاً عن غيره, واعتراف الشخص به هيهات أن يحصل.
وأما البَيِّنة في ذلك فصعب قبولها, لأنها تحتاج إلى ما قدمنا.
([1]) وقع هذا الحديث في الباب السابع عشر من الشهاب بلفظ: «اللهم واقية كواقية الوليد» قال أخونا العلامة المحدث السيد أحمد في تخريجه المسمى (فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب) في الكلام على هذا الحديث: رواه القضاعي في مسند الشهاب، وابن شاهين من طريق عبدالوهاب بن الضحاك ثنا ابن عياش عن يحيى بن سعيد عن سالم عن ابن عمر قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول...، فذكره وعبد الوهاب كذبه أبوحاتم وقال النسائي متروك وقال: الدارقطني منكر الحديث. وقال البخاري: عنده عجائب لكن أورده الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث ابن عمر أيضًا بلفظ كان يقول في دعائه واقية كواقية الوليد وقال أبو يعلى: يعني المولود كذا فسر لنا ثم قال الحافظ نور الدين: رواه أبو يعلى وفيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات.أهـ. فإذا لم يكن المبهم هو عبدالوهاب المذكور فهو شاهد له.أهـ.
([2]) كذا بالأصل، والصواب: لأبي القاسم الجنيد، كما هو في طبقات ابن السبكي، وهذه الحكاية أسندها القشيري في الرسالة، والخطيب في التاريخ من طريق أبي الحسين علي بن إبراهيم الحداد، قال: حضرت مجلس أبي العباس ابن سريج فتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن أعجبت به فلما رأى إعجابي قال.. إلى آخره.
([5]) يعني في مطلق الثناء لا بخصوص الولاية، وذلك في حديث أنس مرفوعًا: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ». رواه الشيخان ورواه أبوداود وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وفي صحيح البخاري عن عمر -رضي الله عنه- قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ». الحديث، وفي المعنى أحاديث كثيرة.
([6]) رواه المحاملي، قال: ثنا زياد بن أيوب ثنا محمد بن يزيد عن نافع بن عمر الجمحي عن سليمان بن عبده قال: قال عمر -رضي الله عنه- فذكره، وهو منقطع، ووصله الحافظ أبوالقاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب، والخطيب في المتفق والمفترق بإسناد ضعيف من طريق يحيى بن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: وضع عمر ثماني عشرة كلمة حِكَم كلها؛ قال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءًا -أو قال شرًا- وأنت تجد لها في الخير محملاً، ومن تعرَّض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كتم سره كانت الخيرة بيده، وعليك بإخوان الصدق تعش في أكناهفهم، فإنهم زينة في الرخاء، عدة في البلاء، وعليك بالصدق وإن قتلك ولا تعرض فيما لا يعني ولا تسأل عما لم يكن فإن فيما كان شغلاً عما لم يكن، ولا تطلبن حاجة إلا ممن يحب نجاحها، ولا تهاون بالحلف الكاذب فيهلكك الله، ولا تصحب الفجار فتتعلم من فجورهم، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: من آية 28]، وروى البيهقي في الشعب من طريق إبراهيم بن طيبة عن يحيى بن سعيد عن أبيه قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ضع أمر أخيك على أحسنه، وذكر ما تقدم غير أنه خالفه في كلمات.
([8]) كآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات: من آية 12]، قال ابن عباس في تفسيرها: (نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءًا) أسنده عنه ابن جرير والبيهقي في الشعب، وروى مالك ومن طريقه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ». وروى ابن أبي شيبة من طريق مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَظَرَ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ وأَعْظَمَ حُرْمَتَك, وَلَلْمُسْلِم أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْك, حَرَّمَ اللَّهُ دَمَهُ ومَالَهُ وَعِرْضه, وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السُوء». وكذا رواه البيهقي في الشعب من طريق حفص بن عبدالرحمن عن شبل بن عباد عن ابن أبي نجيح عن ابن عباس مرفوعًا به، وروى ابن ماجه نحوه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف، والأحاديث في المعنى كثيرة.