[كلام الغزالي في فرق المغترين من المتصوفة]
(فصل) قال الغزالي في الإحياء في باب الغرور وبيان أصناف المغترين: الصنف الثالث: المتصوفة, وما أغلب الغرور عليهم.
والمغترون منهم فرق, ففرقة منهم متصوفة أهل الزمان, إلا من عصمه الله, اغتروا بالزي والهيئة, فشاركوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم, وفي ألفاظهم وفي آدابهم وقراءتهم واصطلاحاتهم, وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات, مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر, وفي تنفس الصعداء, وفي خفض الصوت في الحديث.. إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات, فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيها ظنوا أنهم صوفية, ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية. كل ذلك من أوائل منازل التصوف.
ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم من الصوفية, كيف ولم يحوموا حولها, ولم يسوموا أنفسهم شيئا منها, بل تكالبوا على الحرام والشبهات وأموال السلاطين, ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة, ويتحاسدون على النقير والقطمير, ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه وهؤلاء غرورهم ظاهر.
وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور, إذ شق عليهم الاقتداء في بذاذة الثياب والرضى بالدون, وأرادت أن تتظاهر بالتصوف, ولم يجدوا بدًا من التزيي بزيهم, فتركوا الحرير والأبريسم, وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرفيعة, والسجادات المصبوغة, ولبسوا من الثياب ما هو أرفع قيمة من الحرير والأبريسم, وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعا, ونسي أنهم لوثوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها كل ساعة لإزالة الوسخ. وإنما لبسوا المرقعات إذ كانت ثيابهم مخرقة, فكانوا يرقعونها ولا يلبسون الجديد. وأما تقطيع الفوط الرفيعة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها, فمن أين يشبه ما اعتادوه؟ فهؤلاء أظهر حماقة من كافة المغرورين, فانهم يتنعمون بنفيس الثياب ولذيذ الأطعمة, ويطلبون رغد العيش, ويأكلون أموال السلاطين, ولا يجتنبون المعاصي الظاهرة فضلا عن الباطنة. وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير. وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق, إذ يهلك من يقتدي بهم, ومن لا يقتدي بهم تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة, إذ يظن أن جميعهم كانوا من جنس هؤلاء, فيطول اللسان في الصادقين منهم, وكل ذلك من شؤم المتشبهين وشرهم.
وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود, والوصول إلى القرب, ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ, لأنه تلقف من ألفاظهم كلمات, فهو يرددها, ويظن أن ذلك من أعلى علم الأولين والآخرين, فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء, فضلاً عن العوام, حتى إن الفلاح يترك فلاحته, والحائك يترك حياكته ويلازمهم أيامًا معدودة, ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيغة, فهو يرددها كأنه يتكلم عن الوحي, ويخبر عن سر الأسرار, ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء, فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون, ويقول في العلماء: إنهم بالحديث عن الله محجوبون, ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق, وأنه من المقربين, وهو عند الله من الفجار المنافقين, وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين, لم يحكم قط علما, ولم يهذب خلقا, ولم يرتب عملا, ولم يراقب قلبا, سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه.
وفرقة منهم وقعت في الإباحة فطووا بساط الشرع, ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام, فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملي, فلم أتعب؟ وبعضهم يقول: قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا, وذلك محال, فقد كلفوا ما لا يمكن, وإنما يغتر به من لم يجرب, وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال.
ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما, بل إنما كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع.
وبعضهم يقول: الأعمال بالجوارح لا قدر لها, وإنما النظر إلى القلوب وقلوبنا والهة بحب الله, واصلة إلى المعرفة, وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا, وقلوبنا عاكفة في حضرة الربوبية, فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب, ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام, واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية, فإن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها, ويرفعون درجة أنفسهم عن درجة الأنبياء, إذ كانوا يبكون على أدنى شيء, وينوحون عليه سنين متوالية.
وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى, وكل ذلك بناء على أغاليط ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل أحكام العلم, ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم, صالح للاقتداء به, وإحصاء أصنافهم يطول.
وفرقة أخرى جاوزت حد هؤلاء وأحسنت الأعمال وطلبت الحلال واشتغلت بتفقد القلب, وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضى والحب, من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. فمنهم من يدعي الوجد والحب لله ويزعم أنه واله بالله, ولعله قد تخيل في الله خيالات هي بدعة أو كفر, فيدعي حب الله قبل معرفته, ثم إنه لا يخلو عن مقارفة ما يكره الله, وعن إيثار هوى نفسه على أمر الله, وعن ترك بعض الأمور حياء من الخلق, ولو خلا ما تركه حياء من الله.
وفرقة أخرى ضيقت على نفسها في أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص, وأهملوا تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة.
ومنهم من أهمل الحلال في مطعمه وملبسه ومكسبه, وأخذ يتعمق في غير ذلك. وليس يدري المسكين أن الله ليس يرضى من عبده بطلب الحلال فقط, ولا يرضى بسائر الأعمال دون طلب الحلال بل لا يرضيه إلا تفقد جميع الطاعات والمعاصي, فمن ظن أن بعض هذه الأمور تكفيه وتنجيه فهو مغرور.
وهذا كله كلام الغزالي بلفظه.